أدى اكتشاف الثروة النفطية في المملكة، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وما تبع ذلك من زيادة العائدات المالية، إلى انتهاج الحكومات السعودية المتعاقبة، سياسة الإنفاق المالي على عملية التنمية الشاملة، لجميع أنحاء البلاد، عن طريق استقدام اليد العاملة الأجنبية المدربة، التي فرضت وجودها نتيجة الحاجة الاجتماعية الملحة، والنمو الاقتصادي الآخذ بالارتفاع، وإيجاد البنية التحتية، من شبكات الطرق والمدارس والمطارات والسكك الحديدية، والمباني الحكومية، وإقامة المشروعات التنموية المختلفة، بالإضافة إلى النقص الحاد في أعدد اليد العاملة الوطنية، وضعف إقبال الشباب السعودي على التعليم الفني والمهني والمهن الصغيرة. كل العوامل السابقة، أدت حينئذٍ إلى فتح الباب على مصراعيه أمام العمالة الأجنبية، لتسهم في بناء هذا البلد وتنميته وازدهاره، ورفعته وتطويره، ومن باب العدل والإنصاف، علينا تجاه كل من خدم الوطن وقدم إسهامات جليلة وساهم في بنائه عدم التغاضي عن الدور المحوري، المهم، الذي لعبته العمالة الأجنبية بمختلف جنسياتها ووظائفها خلال أكثر من خمسين عاماً. والآن، وبعد مرور أكثر من «نصف قرن» على بدء إقرار نظام الاستقدام في المملكة، أصبحنا بحاجة ماسة إلى إعادة النظر والمراجعة الشاملة، والقراءة المتأنية، لأوضاع «العمالة الأجنبية» ودراسة كافة الإيجابيات والسلبيات المترتبة من بقاءها وأثرها على «التركيبة السكانية» للبلد ومن ثم اتخاذ القرار الصائب. وبالمقابل، وكما أشدنا آنفاً بالدور الذي لعبته العمالة الأجنبية، خلال العقود الماضية، يجب علينا أيضاً عدم إغفال النتائج السلبية، والتداعيات الخطيرة المترتبة على فتح المجال بالكامل، والحرية غير المقيدة في الاستقدام، وما إلى ذلك من خطورة في اختلال التركيبة السكانية للبلد، حتى أدى ذلك إلى ارتفاع نسبة العمالة الأجنبية في المملكة في آخر إحصاء سكاني أجري عام 2010 م إلى أكثر من ثمانية ملايين مقيم، بما يوازي «ثلث السكان» وما لذلك من انعكاسات سلبية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والأمني والسياسي. ويجدر بنا الاعتراف بالآثار السلبية المترتبة على التساهل المفرط في استقدام العمالة الأجنبية، وبأعداد مهولة وضعف القيود المفروضة على ذلك. ومن الآثار السلبية للاستقدام على سبيل المثال لا الحصر: ارتفاع معدلات الجريمة، وانتشار السلوكيات غير الأخلاقية، وبعض حالات اضطراب الأمن، والاستنزاف الاقتصادي الهائل، الناجم عن حجم «التحويلات البنكية» التي تقدر بعشرات المليارات سنوياً، إضافةً إلى تزايد حالات السرقة والتزوير، وترويج المخدرات، وانتشار البطالة الوطنية، والتأثير على الهوية الثقافية، واللغة العربية، ومحاولة التبشير بالأديان، ونشر الأمراض الخطرة والمعدية، كالإيدز وغيره من الأمراض الأخرى. ونحن إذ نستعرض هذه الجملة من السلبيات، والآثار الخطيرة المترتبة على ضعف الرقابة المفروضة على الاستقدام، فإننا نناشد وزارة العمل بضرورة الإسراع في إقرار «استراتيجية وطنية، للتخلص من العمالة الأجنبية الزائدة عن الاحتياج الفعلي». وهنا أشدد على نقطة «الزائدة عن الاحتياج الفعلي» لأن الاستغناء الكلي عن العمالة الأجنبية يظل كلاماً غير قابل للنقاش، وبعيدا عن المنطق العقلي، لأن الدول الكبرى كأمريكا وبريطانيا وفرنسا، لديها أعداد هائلة من العمالة الأجنبية تصل إلى خانة الملايين. ومن البنود المقترحة لهذه الاستراتيجية: تشديد الإجراءات المفروضة على الاستقدام ووضع شروط أكثر صرامة وحصر الاستقدام على المهن التي يندر فيها السعوديون كالعمالة الخاصة بالبناء والتشييد وتقليص حجم العمالة الأجنبية إلى الحد الأدنى والاستقصاء الدقيق عن العمالة «مجهولة العمل» التي أتت بطرق غير نظامية وتمارس «الكسب غير المشروع» وتوطين المهن والوظائف التي ليست بحاجة إلى استقدام عمالة وافدة كالبقالات ومراكز التموين ومحطات الوقود ومحلات بيع الخضار والفواكه وجميع المحال التجارية المتنوعة والمطاعم والصيدليات. إنّ وزارة العمل مطالبة بالتطبيق الفوري و السريع لبنود هذه «الاستراتيجية الوطنية» حتى تتمكن من تقليص حجم العمالة الوافدة الموجودة وتخفيض نسبتها إلى الحد الطبيعي وإبقاء العامل الأجنبي صاحب التخصص النادر والضروري وطرد العامل الهامشي وغير المهم عبر إحلال المواطن السعودي محله. أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه من خلال الزيادة التراكمية السنوية في أعداد العمالة الأجنبية الوافدة، فإننا مقبلون على أزمة خطيرة جداً لا يمكن التنبؤ إطلاقاً بنتائجها وتداعياتها ومفاعيلها!