هيئة المحتوى المحلي وبرنامج "صنع في السعودية" يُطلقان "الفئة الذهبية" من علامة صناعة سعودية    فلسطين: "لا مبرر" للفيتو الأميركي في مجلس الأمن    الدحيلان يشكر القيادة بمناسبة ترقيته إلى وظيفة سفير    انطلاق فعاليات الاحتفاء باليوم العالمي للطفل في تعليم الطائف    وصول الدفعة الأولى من ضيوف الملك للمدينة    مصادر روسية: بوتين مستعد لاتفاق بشأن أوكرانيا برعاية ترمب    يديعوت أحرونوت: إسرائيل تخطط لحكم عسكري في غزة    استقبال طلبات الترشح لجائزة الملك سلمان العالمية    انطلاق منتدى شراكات التعليم العالي السعودي - الأمريكي بمشاركة 80 جامعة    مجمع إرادة بالدمام يدشن المرحلة الرابعة لمبادرة " كن أكثر وعياً " في 189مدرسة    أمين القصيم يوقع عقد انارة طرق رئيسية بمدينة بريدة بتكلفة قرابة 9 مليون ريال    إحباط تهريب 939 كجم من الحشيش و82 ألف قرص مخدر    وزير النقل: المملكة مقبلة على نمو وزيادة أطوال شبكات السكك الحديدية    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تحتفي باليوم العالمي للطفل    بيئة تبوك تقيم معرضاً عن المضادات الميكروبات    مستشفى أحد رفيدة يُنفّذ "الأسبوع الخليجي للسكري"    جامعة الملك خالد تدشن قسم "حياة الطفل" بالمستشفى الجامعي    ماذا سيواجه أطفال 2050؟    عبدالعزيز بن سعد بن يستقبل مدير مرور منطقة حائل السابق والمعين    رافضاً الإفصاح عن معلومات.. هوكشتاين: نمشي خطوة خطوة    د.العيسى يستقبل كبار الباحثين والمُختصِّين بالشؤون السياسية والعلاقات الدولية بمجلس العلاقات الأمريكية الخارجية    وزراء داخلية الخليج يعززون التعاون الأمني المشترك في اجتماعهم ال41 بالدوحة    هتان السيف: جاهزة لمواجهة الجزائرية ليليا عثماني.. والجمهور سبب قوتي    أمير الرياض يرأس الاجتماع السنوي الثاني للمحافظين ومسؤولي إمارة المنطقة    دراسة تقول إن كرة القدم الاحترافية لا تشهد تطبيق معايير السلامة المطلوبة    وزير العدل يبحث مع رئيس مؤتمر لاهاي للقانون الدولي الخاص سبل تعزيز التعاون    المرأة السعودية أثبتت كفاءتها في سوق العمل وارتفعت نسبة تقلدها للمناصب القيادية    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير عام التعليم    استخدام «الجوال» أثناء قيادة المركبة يتصدّر مسببات الحوادث المرورية في منطقة المدينة المنورة    المملكة ترسّخ ريادتها "الإنسانية" باستضافة مؤتمر "التوائم الملتصقة"    ارتفاع أسعار الذهب    الوطنية للإسكان (NHC) تتألق في سيتي سكيب الرياض    «الموانئ» للشركات المتعاقدة: التزموا ببطاقات تشغيل الشاحنات    «الوظائف التعليمية»: استمرار صرف مكافآت مديري المدارس والوكلاء والمشرفين    السواحة: ولي العهد صنع أعظم قصة نجاح في القرن ال21    مصير «الأخضر» تحدده 4 مباريات    فرص تطوعية لتنظيف المساجد والجوامع أطلقتها الشؤون الإسلامية في جازان    رهانات زيارة ماكرون للمملكة العربية السعودية    الرومانسية الجديدة    واعيباه...!!    المعداوي وفدوى طوقان.. سيرة ذاتية ترويها الرسائل    القراءة واتباع الأحسن    جمع الطوابع    إدارة الخليج.. إنجازات تتحقق    تعزيز البنية التحتية الحضرية بأحدث التقنيات.. نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية    صدور موافقة خادم الحرمين الشريفين.. استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    في مؤجلات الجولة الثامنة بدوري يلو.. النجمة في ضيافة العدالة.. والبكيرية يلتقي الجندل    نجوم العالم يشاركون في بطولة السعودية الدولية للجولف بالرياض    كلب ينقذ سائحاً من الموت    مراحل الحزن السبع وتأثيرتها 1-2    الاستخدام المدروس لوسائل التواصل يعزز الصحة العقلية    نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي    محافظ الطائف يستقبل الرئيس التنفيذي ل "الحياة الفطرية"    مجمع الملك فهد يطلق «خط الجليل» للمصاحف    أمير تبوك يستقبل المواطن ممدوح العطوي الذي تنازل عن قاتل أخيه    وزير الدفاع ونظيره الفرنسي يبحثان آفاق التعاون العسكري    لبنان نحو السلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشغالات والسحر: بين عيادة الطبيب ومجلس الراقي
نشر في الشرق يوم 28 - 04 - 2012

ستكون مقالتي هذا الأسبوع استتباعا لمقالة الأسبوع الماضي، التي كانت حول حلقة الرقية الشرعية من برنامج «الثامنة» الذي يبث من قناة العربية. ومثلما ذكرت في المقالة الماضية، تميزت الحلقة بوقوفها على تخوم الجدل حول أي المنظورين العلاجيين، الرقية أو الطب النفسي، أقدر على حل مشكلات المرضى ومعاناتهم. في هذه المقالة، سأطرح تأملات حول تعثر جهود الأطباء النفسيين في نيل الثقة المجتمعية في فعالية أدواتهم العلاجية ونجاح الرقاة الشرعيين بالمقابل، في ذلك.
لنبدأ من الحكاية التي سردها الراقي محمد العمري. حكاية المريضة التي جال بها ذووها على الأطباء النفسيين لسنوات بلا فائدة ولكن راقيا قدر على حل كل مشكلاتها الصحية لأنه توصل إلى معرفة السر: سحر وضعته شغالتها السابقة في بيتهم السابق في سيفون أحد الحمامات. باكتشاف السحر، تنحل العقدة ويزول المرض وتستعيد المرأة العافية التي عجز ممارسو الطب النفسي الحديث عن منحها إياها.
الحكاية بشكلها السابق أصبحت أنموذجا كلاسيكيا لكثير من المرويات التي تجري على نفس النسق، ليس في جانب الأمراض النفسية فقط بل وحتى في الأمراض العضوية أيضا: يمرض الشخص فيذهب به ذووه إلى الأطباء الذين إما يفشلون في علاجه أو يقترحون تشخيصا خطيرا من سرطان وغيره، ثم وبضربة من راق شاطر يزول المرض بإذن الله.
بالرجوع إلى حكاية العمري، لنتذكر أن الطبيب النفسي عبدالرزاق الحمد حاصر الراقي العمري بأسئلة لم يستطع الإجابة عنها، مثل كيف عرف الراقي مكان السحر، خاصة أنه موضوع في بيت رحلت عنه المريضة؟ وبالنسبة لي شخصيا، فإني أقبل تفسير الطبيب الحمد بأن المريضة هي التي أوحت للراقي بمكان السحر وبمن وضعه لها. أي أن المريضة هي نفسها هي التي صنعت الحكاية كلها بما فيها وضع السحر، بغير وعي منها بالطبع، تنفيسا لأحقاد مكتومة في سراديب اللاوعي تجاه الشغالة السابقة. بعبارة أخرى، إني أتبنى المنظور العقلاني للطب النفسي تجاه هذه الظواهر وما يشابهها. لكن سؤالي المركزي، لماذا يعجر الأطباء النفسيون المزودون بكل هذه الترسانة من المعرفة والتقنية عن أن يحلوا معضلات المرضى، حتى لو كانت تلك المعضلات تصنف أوهاما، فيما يقدر الرقاة المكتسبون لمعارفهم ومهاراتهم بتدريبهم الذاتي بدون رعاية مؤسسات رسمية من جامعة أو مستشفى على ذلك؟
الإجابة هي في نوعية المرجعية المعرفية لكل من المعالجين، الراقي والطبيب، وعلاقتها بالمرجعيات الثقافية للمرضى. فالطبيب المتكئ على منظومة معرفية طارئة وغريبة (هي منظومة العقلانية الغربية) يعد عاجزا وكسيحا عن النفاذ لدواخل المرضى مقارنة بالراقي الذي ينطلق من مقاربات للجسد والروح والمرض هي عينها التي ينطلق منها المرضى في فهمهم للعالم. في هذا الواقع، «يتواطأ» الراقي والمريض على حكاية وحبكة، سحر أو عين أو جن، ويدخلان في أداء ينتهي بحل العقدة. يذكر الراقي السلطان معاناته من المرضى الذين يأتون وتشخيصهم جاهز لديهم، جن أو سحر أو عين، ويظلون يلحون على الراقي أن «يبصم» على صحة هذا التشخيص، وأيضا ركز الراقي العمري على معاناة الرقاة من هذه النوعية من المرضى. في المقابل، ماهو مقدار معاناة الأطباء النفسيين من مرضى يأتون مصرين على أنهم مصابون ب: وسواس قهري أو اكتئاب أو فصام أو غيره؟ بل، إن المعرفة الشعبية في راهنها الحالي أدمجت التصنيفات الطبية للأمراض النفسية داخل منظومة العين والسحر والجن، فأصبح المرء مصابا باكتئاب أو فصام أو غيره لأنه ممسوس أو مسحور أو معيون. إزاء واقع كهذا، لا يمكن للطبيب النفسي أن يبدع وينجح دون التسلح بالخيال والقدرة على النفاذ إلى عمق عوالم المرضى، ليس فقط تجاربهم ومعاناتهم بل حتى قناعاتهم ورؤيتهم للعالم.
ببساطة، يفشل الطبيب النفسي لقصور الخيال لديه. ربما يرجع ذلك لطريقة تأهيل الأطباء لدينا، أي اشتراطات كليات الطب للقبول. فهذه الكليات ليس أمامها إلا الاتكاء على درجات الطلاب في مقاييس معينة، من قبيل شهادة الثانوية (ثم لاحقا المقاييس الجديدة من قدرات وتحصيلي) لكنها تهمل بشكل تام، بل وتزدري، الإلمام بمعارف ومهارات «لا علمية» من قبيل الفن والرواية وغيرها مما يكسب الفرد خيالا يجعله قادرا على النفاذ إلى تجاويف التجربة الذاتية للمرضى، بما تحويه تلك التجاويف من معارف وتصورات وخبرات.
يركز كتيب عنوانه «معارف الجنوب» على المعارف والمهارات والحكم التي يزخر بها عالم الجنوب، الموصوم بالتخلف والفقر والجهل، التي لبعضها فاعليات تساوي فاعليات المعارف الحديثة المبنية على العقلانية الغربية. مثلا، لاحظ طبيبا يعمل في مجتمع محلي إفريقي مفعم بالتصورات السحرية للعالم أن مرضاه يستجيبون بشكل أفضل لأدويته، التي هي من نتاجات علم الصيدلة الغربي وتصرف بناءً على تشخيصات الطب الغربي إن هو جعل المرضى يتناولونها خلال أداءهم لطقوس الاستشفاء التقليدية لذلك المجتمع. توليفة كهذه، بين العقاقير (التي هي نتاج معارف عقلانية) والطقوس الاستشفائية (التي هي نتاج معتقدات راسخة) أنجح من الاكتفاء بمنهج علاجي واحد، سواء كان طقسا سحريا أو طبا غربيا حديثا.
خيال هذا الطبيب الذي جمع بين معتقدات مرضاه ومعارفهم حول العالم والجسد والمرض وبين معارفه وتدريبه المبنيين على منظور عقلاني غربي للجسد والمرض هو ما كان ينقص الأطباء النفسيين، الذين ظلت مريضة العمري تراجعهم لسنوات بلا أي فائدة تذكر. ترى، لو أن تلك المريضة «توفقت» بطبيب نفسي «شاطر»، قدر على أن يعرف مكمن علتها، التي هي شغالة سابقة، وقدر على أن يجعل مريضته توحي له بالعلة (التي هي السحر) ومسببها (الذي هو الشغالة) ومكانها (الذي هو سيفون حمام في بيت قديم) ما الذي كان سيبقى للراقي؟ وكيف هو مستقبل العقلانية في كل فضائنا العام؟ كالمهندسين، الأطباء دلائل العقلانية، إن نجحوا في عملهم تقدمت العقلانية في كل الفضاء المجتمعي العام وإن فشلوا استمر التعثر في طرح غلالة العقلانية، ومعها التحديث، على كل سماء المجتمع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.