يغضب كثير من الأطباء من طريقة تعاطي الإعلام مع ملف الأخطاء الطبية، ويرون في طريقة نشر وتداول الأخبار المتعلقة بالأخطاء الطبية الكثير من التجني والتحريض، ويشرعون بمجرد بدء الحديث عن موضوع الأخطاء الطبية في مقارنة عدد تلك الأخطاء والحوادث بعددها في الدول الغربية، ويصرّون على أن المواطن (فاهم غلط) وأن الوضع عندنا أفضل بكثييير من (بلاد برا)، لكن الإعلام هو الذي يفتعل تلك المبالغات ولا يفرق بين الأخطاء الطبية وبين (المضاعفات) الناتجة عن التدخل العلاجي. وقبل الخوض في تفاصيل تلك الحجج، التي قد يكون بعضها صحيحاً، ينبغي أن نشير إلى السبب الحقيقي الذي جعل الإعلام والمجتمع من خلفه بفئاته كافة محتقناً ومتوجساً تجاه الأخطاء الطبية؟ ولماذا يميل الناس إلى تقديم سوء الظن تجاه أي حادثة يشتبه في كونها خطأ طبياً؟ ولماذا يتسامح الناس مع مرتكبي حوادث السيارات التي قتلت أبناءهم وذويهم ولا يبدون ذات السماحة تجاه الخطأ الطبي المحتمل؟ في الحقيقة، يحتقن الناس تجاه الأخطاء الطبية لأنهم يشعرون بمزيج من الغبن والاستخفاف من الجهات كافة التي تتعامل مع ملف الخطأ الطبي، ابتداء بوزارة الصحة وانتهاء باللجنة الشرعية ومروراً بالقطاع الخاص أو العام مصدر الضرر. فليس من المعقول ولا من المقبول أن تحال كل قضايا الوفاة والعجز إلى لجنة شرعية محدودة الصلاحيات أقصى ما يمكن أن تحكم به هو عقوبة القتل الخطأ أي الدية الشرعية فقط لا غير، خلاف بعض الغرامات التي تتقاضاها وزارة الصحة نتيجة المخالفات الإدارية. أي أن من يفقد فلذة كبده نتيجة إهمال فاضح أو تجاوزات أقرب إلى القتل العمد عليه أن يرضى بالدية بعد شهور طويلة من مطاردة معاملة الشكوى في أروقة وزارة الصحة، التي ستستفيد من تعب المواطن بتحصيل غرامات ستفرض على منشأة القطاع الخاص محل الشكوى في حال حكمت اللجنة الشرعية بثبوت الخطأ. أي أن التعب من نصيب المواطن والمكسب من نصيب الوزارة! مع الأسف ما يجري في القطاع الصحي الخاص حالياً هو أقرب إلى جريمة تعمد القتل في معظم الأحوال، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالأخطاء الطبية، فمالك المنشأة الطبية يتصرف كالمقاول الذي يرغب في أكبر قدر من الربح بأقل النفقات، فيقلل من مصروفات البناء ومن اشتراطات السلامة ومن عدد العمال، ثم عندما يشب حريق في المبنى أو ينهار جزء منه على ساكنيه يتم التعامل معه على أنه قضاء وقدر ويعاقب مهندس الإنشاءات المسكين ويتم ترحيله في الوقت الذي يقوم فيه المقاول بتوقيع عقد مبنى جديد وهكذا. إن تحميل الطبيب وحده مسؤولية الخطأ الطبي هو علاج للخلل الظاهر فقط وسكوت على أساس الداء المسبب للكارثة، فأمهر الأطباء لا يستطيع علاج مريض واحد بدون طاقم عمل متكامل وأدوات تشخيص ومعدات جراحية وعلاجية وفريق طوارئ وعناية مركزة وتمريض فائق الكفاءة. ولأن تلك التجهيزات مكلفة فإن مالك المنشأة يستسهل في تجهيزها ويضغط على الطبيب (المستقدم من الخارج غالباً) ليقبل العمل بدون أيٍّ من تلك الوسائل، بل ويعاقبه في بعض الأحيان على تبديد الوقت إن أطال الجلوس مع المريض. وهو مطالب برقم معين من الدخل كل شهر، وإلا فإن الترحيل بانتظاره. تُرى هل يلام طبيب في تلك الظروف إن تهاون أو أخطأ التشخيص أو أساء التصرف؟ وهل سيكون وهو المغترب الأجنبي أرحم بابن الوطن من شقيقه المواطن صاحب المنشأة؟ وهل يعقل في حال وقوع الخطأ أن يعاقب هذا الطبيب وحده ويترك صاحب المستشفى أو المستوصف بدون عقاب سوى غرامات تافهة يصرف هو أضعافها كل شهر على بند الدعاية؟ نشرت صحيفة «سبق» في يوم 29-5-1423 خبراً مفاده أن ورثة المرحوم طارق الجهني (إحدى أشهر ضحايا الأخطاء الطبية) قد حصلوا على أمر بفتح تحقيق جنائي في ملابسات موت طارق، وأن ذلك الأمر استغرق أكثر من عامين وتطلب استعانة بمنظمة العفو الدولية لإقناع الجهات التنفيذية ببطلان حكم اللجنة الشرعية، لأن القضية ليست قتل خطأ. وما أتمناه وأرجوه أن يوفق الله محامي الأسرة المكلومة في إثبات الجرم الجنائي حتى يسجل سابقة تعيد فتح الملفات المغلقة على جراحات أهلها!