وجدت المرأة ذاتها في قدرة على التعبير والبوح ، وفي حاجة إلى ذلك فوجدت أمامها إرثا يحتضن شكلا محددا للنص الشعري ، وقوانين تسلك ، وأغراضا يروم الشعراء التعبير عنها فيه ، فكان من الطبعي أن يشكل ذلك النسق هاجسا لها إما بالتفاعل معه ، والنسج على منواله ، وإما مناوأته والخروج عليه ، وحينئذ تقع في مواجهة النسق الذي نعرفه هنا بأنه: مجموعة المرعيات والاشتراطات التي يعد الخروج عليها إخلالا يحدث المواجهة والضجر. كانت الدواوين الأولى في إصدارات المرأة الشعرية يغلب عليها التقيد بالشكل الشعري العمودي ، ذلك الشكل الذي يسمه النسق بالتراثي ، وأحيانا يسمه الدارسون بالتقليدي ، وجاءت تسميته بالشكل العمودي على اعتبار ما فيه من تمسك بعمود الشعر، وقد اتحذ سريان ذلك نسقية في الثقافة العربية ، و كانت المرأة في اصداراتها وتجاربها الأولى مستجيبة لهذا النسق ، فتجد الشعر يسير على نسق القصيدة العربية القديمة في ذلك ، وتجد أغراضه ، وصوره ولغته تسير في النسق ذاته حتى إنك أحيانا لو حذفت اسم الشاعرة ، لظننت أن هذا النص لشاعر يفصل بيننا وبينه مئات السنين ، فلو قرأنا هذه الأبيات: شهدت لنا الأيام خير فصولها وبها شهدنا روعة الغدران ولكم حوانا الفجر في أحضانه نلهو معا في غبطة وحنان نلهو بصمت .. هائمين بروعة عبر السفوح الخضر. . والوديان والشمس تنثر خصلة ذهبية تهب السنى. . ومباهج الألوان كم كنت محبوبا أليفا صادقا صبا غزير الحب والتحنان لا.. لست أعتب .. فالنفوس تغيرت قد بعت عمرا كاملا بثوان لما وجدنا ما يدل على انها لامرأة ، بل إننا لا نجد فيها ما يفصلها عن عصر سابق لعصرنا ، إلا القافية الأخيرة ( ثوان ) التي لم تكن تستخدم في العصور السابقة فهنا نجد النسق قد استقطب الأنثى ليس بالشكل الشعري فقط وطريقة التعبير ، بل فيما أرادت التعبير عنه ، ولم يكن مخاطبة النص للمذكر حين تعني المحبوب بخارجة عن ذلك النسق ؛ فالشعر العربي حافل بالنصوص التي تذكر المرأة المحبوبة بصيغة المذكر في مثل قول المتنبي: مررت على دار الحبيب فحمحمت جوادي وهل تشجو الجياد المعاهد ومثل قول البحتري: برق أضاء العقيق من ضَرَمه يكشّف الليل عن دجى ظلمه ذكرني بالوميض حين سرى من ناقض العهد ضوء مبتسمه ثغر حبيب إذا تألق في لماه عاد المحب في لممه لذا فليس بمستغرب أن ينصرف الظن إلى أن هذا نص شاعر يخاطب امرأة. وهذا النص للشاعرة سلطانة السديري التي غامرت بإصدار أول ديوان شعري نسائي من السعودية كما أشرنا أعلاه وقد تم اختياره من ديوان للشاعرة صدر بعد ديوانها الأول بعقود ، إذ إنه من ديوانها ( على مشارف القلب ) ، الصادر عام 1995م ، ليدل على مقدار التجاوب مع النسق في الشكل الشعري ، على الرغم من موجة التحديث التي تتحرك أمام عيني الشاعرة ؛ و على الرغم من وجود نصوص لها في شكل شعر التفعيلة ؛ فقد ألح عليها النسق في تشكيله وطريقة تعبيره ؛ فتجد ذاتك أمام الشعر القديم تستمع إليه من شاعرة في العصر الحديث ، على النحو الذي يتداعى إليك وأنت تسمع هذه الأبيات لسلطانة: أكفكف دمعي كلما قال قائل لماذا دموع العين مني تسيل أخاف من العذال من لوم لائم يقولون إني في الغرام عليل فكأنك تقرأ نصا لشاعر يتأبى على الدمع ، وهو ما يخالف طبيعة الأنثى ، وإذا غضينا النظر عن ذلك بحسب أن الشاعر يطلب المبالغة ، ويعيش في أجواء التخييل ، فإنا نتساءل : لماذا غاب الضمير المؤنث ؟ يبدو أن غيابه كان لطغيان النسق على النص. وعلى الرغم مما يبدو لدى الشاعرة من ضجر أحيانا ، وتبرم على نحو ما يظهر في قولها : وأمسيت في الأيام شر صحيفة يطالعني فيه الشقاء الذي يقرا فما هي أيامي وما هي سلوتي إذا كان حتى النجم يسرى به قسرا لماذا خلقنا كيف كان خلاصنا ومن هو من يضوي ومن ذا الذي يبرا فإنك تحس أن التجربة عامة ، وأنها استخلاصات وإعادة صياغة لأسئلة الموروث الثقافي. وحتى إذا ظهر لدى الشاعرة صوت تمرد ، وتحد ، وإعلان عن الذات في مثل قولها: أنا قد تجاوزت كل الحدود وحطمت من ذا الفؤاد القيود وأبعدت عني شجون الغرام وحسن الكلام وكثر الوعود أنا لا أحب المحب الضعيف فيرفع دون هوانا السدود أتت ثورتي بعد صبر جميل فحطمت من ذا الفؤاد القيود فإن هذا الصوت يسير في النسق التقليدي ، وكأنه استبطان لخطاب النهضة ومقاومة الاستعمار ، في مرآة الثورة والتمرد على الحبيب. ورقية ناظر من الشاعرات اللائي استجبن للنسق في الشكل الشعري وفي طريقة التعبير أيضا ، على نحو ما يظهر في هذا النص الذي تقرؤه وكأنك أمام نص من الشعر القديم: مخافة عاذلي أخلفت وعدي لصون النفس من واش حسود فساءك مثل هذا الأمر مني وعاودك الحنين إلى الجحود تصدق ما يقال لك افتراء تؤيده أكاذيب الشهود تناصبني العداء وأي حق يبيح لك التنكر للوعود تكبلني بقيد الظن جهلا فهل تصفو الحياة مع القيود . . . . . فمثلك لا يراعي اليوم ظرفا ومثلي لا يراوغ في الوعود سأصفح ما حييت العمر حلما وصفح الشهم مقرون بجود فتجد منطق الاحتجاج ، والصور تسيطر عليه النسقية الذكورية ، وتجد في هذا النص أيضا أصداء قصيدة عبد الله الفيصل " ثورة الشك " ، فكأن نص المرأة مع الاستجابة للنسق مجرد استنساخ لنص الرجل يعود به التعبير إليه. وفي نص لها بمناسبة دخول ابنها المدرسة تقول: يفيض الدمع من عيني ابتهاجا يذكرني بأعوامي الطويلة فطفلي لم يعد طفلا صغيرا يلاحقني بساقيه النحيلة فقد أضحى بدار العلم فردا لها يسعى بأهداف جليلة وفي مستقبل .. سيكون شهما أبي النفس لا يرضى الرذيلة ومن يدري فقد يغدو أديبا ويشفي فكره النفس العليلة سأدعو الله دوما في صلاتي ليكسو ثامرا ثوب الفضيلة فهذا النص على الرغم من خصوصية المناسبة ، بين طفل وأمه ، إلا إنك تجد الحديث فيه عاما ، وكأن هذه الأم ليست إلا مصيخة للصوت العام ، الذي يجعل للمدرسة اليد الطولى في التعليم، والحق في صياغة أهداف مثل هذا الطفل ويجعل للأدب شأنا ، والواقع أن الأدباء يبحثون عن شأنهم ولم يجدوه .. لكن التعبير النسقي لا يتردد في النظم وفق أفكار النسق ، دون تدقيق ، ودون محاولة اختيار، ونشدان لهذا الاختيار لحقوق طفل يقاد إلى التغذية الشمولية بأفكار النسق. ومن مظاهر استجابة رقية ناظر للنسق ، ما يظهر أحيانا من تعبيرات لا تبالي أن تكون على لسان الذكر: رأيت القوم يختالون تيها بأثمن قيمة جعلوا الثيابا فقلت مسائلا نفسي لماذا أصار الناس يرقون السحابا وربما كان ذلك مستجيبا لسياق النص الذي يقدم نصيحة في مجتمع ذكوري والنصيح لا يقدمها إلا الرجل ، فكان التلبس به في التعبير ، لكي تظهر نصحها الظاهر في هذه القصيدة ، الذي توجهه للذكر أيضا: فخذ عبرا بمن كانوا عليها وساروا بعد أن حصدوا العذابا !!Article.footers.caption!!