من الكتب التي استمتعت بقراءتها هذه الفترة، كتاب لفيلسوف السياسة الفرنسي شارل دي سكوندا الشهير باسم مونتسكيو «تأملات في تاريخ الرومان – أسباب النهوض والانحطاط». نقله من الفرنسية للعربية الفيلسوف المغربي المعروف عبد الله العروي. هذا الكتاب يختلف عن مُؤلَّفَي مونتسكيو الشهيرين (روح القوانين) و(الرسائل الفارسية). فروح القوانين، قد اعتبره الإنكليزأعمق تحليل لتقاليدهم السياسية التي لم تُدَّون، وأقوى دفاع عن الحرية في وجه الاستبداد. أما أهل مونتسكيو (الفرنسيين) وقد قيل أزهد الناس في عالم أهله، فلم يصغوا لدعوات ذلك الكتاب إلا بعد أن قامت الثورة الفرنسية في عام 1789 فعادوا لروح الشرائع كرافد مهم لكتابة دستورهم الجديد. أما (الرسائل الفارسية) فقد استنكر كثيرون أن يخرج مثل هذا الكتاب عن قاضٍ له مكانته الاجتماعية، لما فيه من ألفاظ سوقية فظَّة. فهو عبارة عن مراسلات خيالية قصيرة تنمُّ عن نقد بالغ لوضع اجتماعي – سياسي مهين، بلغة مريرة، وبطريقة جعلت معظم النقاد يقولون إنه أهان المجتمع الفرنسي إهانة بالغة بسخريته من فضول الفرنسيين وتفاهتهم ونمط حياتهم. مثلاً الرسالة رقم (9) هي لكبير الأرِّقاء المخصيين في القصر، وهو يشكو الأسى لفقدانه رجولته مع ما يرى من المفاتن التي تهيج حزنه. قد لا يكون هذا الأسلوب سائغاً لذائقة كل القرّاء، إلا أن السخرية هنا أصبحت سلاحاً ماضياً في يد هذا الفيلسوف لكي يوصل للناس صوت فلسفته. كأنما يميل هذا الفيلسوف إلى ألا يكرر نفسه فيسعى ليقدم شيئاً مختلفاً تماماً في كتاب « التأملات «. فهو أقرب ما يكون للكتاب التأريخي مقروناً بالتحليل، وإن كانت الفكرة هي ذات الفكرة في كتبه الثلاثة، والهاجس هو الهاجس: تأسيس نظام لدولة تدوم. يرى مونتسكيو أن روما نشأت من أساسها، لكي تتوسع. فكانت قوانينها صالحة لبلوغ هذا الهدف على اختلاف الأنظمة السياسة التي توالت عليها من ملكيّة إلى ارستقراطية إلى الجمهورية الشعبية. إلا أنها كانت إمبراطورية قد وضعت النجاح نصب عينيها ووضعت غايتها إخضاع كل شعوب المعمورة لها، فكان النجاح من نصيبها لكونها كانت الأذكى والأكثر فطنة وقوة. وكانت سرعة انهيارها بسبب سرعة تحقق أمانيها. أحلام نخبوية تحققت سريعاً ولم تلبث أن فقدت السيطرة عليها لأن الأمة تضخَّمت بينما بقيت الأهداف والمصالح، مصالح نخبة صغيرة جداً. ثم يتنقل الكتاب من إمبراطور إلى آخر، ماراً بالطاغية الشهير (كاليغولا) الذي كان يغتال كلَّ من يسخط عليه سواء كان من الشعب أو من مجلس الشيوخ نفسه، فيعلّق مونتسكيو هنا، أن هذا الطغيان الفظيع الذي اتسم به سلوك القياصرة يعود إلى طبع متأصل في الرومان. ذلك أنَّهم مرُّوا مباشرة من سلطة القانون إلى حكم الهوى. وأنهم كانوا حقاً أسياداً ثم تحولوا إلى عبيد، دون أن يمرُّوا بحال وسط يعرفون فيها الوداعة والرأفة، فبقيت الشراسة غالبة على أخلاقهم. فتعامل الأباطرة مع شعوبهم كما يتعاملون مع الأعداء المهزومين. وعندما اقتحم (سولا) روما المعارضة له،عامل أهلها بمثل ما عامل أهل أثينا من الإغريق عندما هزمهم، ولم يراع أن أهل روما هم أهل بلده وليسوا كأهل أثينا أعداءه. (المجالدة) مشاهدة المبارزة في الحلبة، وهي عبارة عن معارك دموية تدور بين عبيد يتقاتلون حتى الموت، كانت هي الترفيه البديل عن كرة القدم وبرنامج المصارعة الحرة الذي يشاهده الإنسان المعاصر. إلا أنه كان لها دور كبير في بث القسوة والعنف في المجتمع الروماني. وكان مطلوباً منهم أن يقاوموا العاطفة الغريزية في معاملتهم الأبناء والعبيد. علَّق مونتسكيو: «ما نسميه بالحس الإنساني كان غريباً عنهم». ثم انتقل الكتاب إلى الانقسامات وأسباب الانهيار. وقد ربطه بفساد الأخلاق. ورجَّح أن هذا الفساد كان بسبب انتشار فلسفة الإغريقي أبيقور المادية الإلحادية التي تركِّز على جلب اللذة للإنسان واجتناب الألم بصورة فردية، فتلك الفلسفة لم تتطور بعد لنظرية المنفعة العامة (utilitization) التي تسعى لمصلحة المجتمع لا الفرد. وكان الإغريق قد سبقوا الرومان لهذا التأثر الفاسد بأبيقور، فما عاد أحد يثق بأي يمين يحلفها الإغريقي لأن الإغريق أصبحوا لا يرون أنفسهم ملزمين بالوعد. وينقل الكتاب عن شيشرون في إحدى رسائله لصديق له يدعى (اتيكوس) يظهر أن الرومان قد تغيروا وأصبحوا كالإغريق. الكتاب ممتع ومهم وهو على وصف عبدالله العروي جزءا من مشروع أوسع تجسد لاحقاً في كتاب (روح القوانين) وعلاقة القوانين بالعوامل الموجودة معها من مناخ واقتصاد وأخلاق وأعراف وذهنية عامة. وشهادة الرومان هنا هي أول مختبر يجرب فيه المؤلف صحة نظرياته.