احترقت مدرسة براعم الوطن في جدة ، ووضعتنا من جديد أمام مأزق أننا لا نجيد التعامل مع الأزمات إلا بعد وقوعها، وأننا ما زلنا بعيدين كل البعد عن الفعل الوقائي المنظّم، وسلامتنا رحمة وتوفيق، ونتائج كوارثنا ما زالت تُلصق بشماعة القضاء والقدر. هذا الحريق وضعنا أمام أنفسنا مرّة أخرى، وأمام ثقافة التعامل مع الكوارث الناجمة عن التقصير البشريّ البحت والتساهل والإهمال والفساد، الذي يجعلُ مدرسة غير مجهزة بكافة متطلبات الأمن والسلامة، ولا يوجد بها مخرج طوارئ سوى نافذة مسوّرة بالحديد، ولا يوجد في كل فصل أكثر من طفاية حريق ولا تدريب كامل على استعمالها ، حين لا بد من طرد ألسنة النيران خارج فصل ما حتى يصل الإنقاذ. يجب أن لا نتجه إلى رأس الهرم هذهِ المرة، إذ علينا أن نركز على القاعدة التي تعتني بالفساد الإداري، و”المحسوبية” والتساهل في استخراج التصاريح واستئجار مساكن متهالكة بطرق فاسدة و ملتوية. قمت بعمل استطلاع للرأي وجمعت عدداً كبيراً من مرئيات وملاحظات مديرات ومدراء مدارس مختلفة، وكانت النتائج مخيفة وتنذر بالخطر، حيث أن مكاتب التربية والتعليم تُسهم بشكل كبير في تمرير عمليات التساهل والإهمال والتقصير في توفير متطلبات السلامة في المدارس، عن طريق قسم المباني المستأجرة التابع للوزارة. فقد أوضحت لي إحدى مديرات المدارس في قرية صغيرة أن المبنى المُستأجر الذي تديره مُتهالك وغير صحّي وخالي من كل أسباب ومتطلبات السلامة في حال حدوث مكروه، ولا يوجد به مخرج طوارئ، وسلالمه صغيرة لا تُناسب إخلاء سليماً دون توقع اصابات خطيرة من التدافع، وبعد أن أرسلت لمكتب الإشراف في منطقتها، وفي غضون يومين فقط، وصلها خطاب بأن المبنى سليم وجديد وكامل المواصفات للأمن والسلامة ! تقول دُهشت من ذلك وعرفت لاحقاً أن سبب هذا الرد يكمن في أن صاحب المبنى المُستأجر يعرف القائمين على قسم المباني المستأجرة في مكتب الإشراف وأنهم ” من جماعة واحدة ” وبالتالي يريد أن يحافظ على ثروته التي يحصلها سنوياً من الوزارة مقابل استئجار المبنى، رغم كون المدرسة ( كما قالت لي ) لا تبعد سوى خمس دقائق عن مدرسة أخرى حكومية للتو افتتحت ، وهي عبارة عن مجمع مجهز بكافة وسائل السلامة . مديرةٌ أخرى شكت لي أن خطاباتها لطلب طفايات حريق وجهاز خاص بالإنذار تجاوزت حدود ذاكرتها ، وأنها حتى هذا اليوم لم تصلها بعد , وأردفت بأن شركة الصيانة لم تزر المدرسة منذ أكثر من سنة وأن مكتب التربية والتعليم في المنطقة قد توقف عن التعاقد مع شركات للصيانة ، واكتفى بإرسال ميزانيات للصيانة إلى مدراء المدارس ، الذين يتفاوتون في القدرة على توفير تلك الشركات للصيانة حسب موقع المدرسة ولا سيما النائية . مديرٌ آخر رفض التوقيع على ورقة الدفاع المدني لفحص المبنى لأن المبنى لا يحتوي على سلم للطواريء حسب ما ينص عليه قانون السلامة أي لا يكون حلزونيا بل سهل النزول، لكنه فوجيء أن صاحب المبنى المستأجر ذهب إليهم ووقع الورقة التي تنص على أن المبنى متكامل وصالح حسب مواصفات الامن والسلامة. وفي مدرسة للبنين، أجمع المشرفون التربويون الذين زاروها على أن المبنى متهالك وأن جدار أحد الفصول متصدع ومائل، ولم يبقَ سوى هزة أرضية أو مطر ليقع على الطلاب، فما كان من المدير إلا أن طرد المشرفين، رافضاً إجلاء المبنى المستأجر، ومفضّلا “محسوبيته” لصاحب المبنى على سلامة وأمن أرواح مئات الطلاب، الأمر الذي اضطر أحد المشرفين الشُرفاء إلى الاستعانة بالشرطة وتسجيل محضر “إخلاء مسئولية” عن أي مشاكل قد تنجم عن هذا التقصير المتعمد والمُستهتر. كل ماذكر هُنا ملاحظات جمعت من قطاع تعليمي واحد ومن منطقة صغيرة فقط فكيف لو شمل ذلك مناطق أكبر، مع العلم بوجود كافة الإثباتات على ما جاء هنا، وعلى أن المعاناة لا تزال مستمرة، لذلك فأنا أقترح أن توكّل الوزراة أمر فحص المباني المستأجرة في مدى ملاءمتها لشروط السلامة إلى هيئة مكافحة الفساد أو إلى لجنة محايدة من خارج المناطق المعروضة للفحص حتى لا يتم التحايل عليها وهذا يعني مزيداً من التهاون في الأرواح ومزيداً من الكوارث المتوقعة. إن الفساد حين يتحول إلى عرف إجتماعي ويخرج من كونه تصرفاً مُستهجناً وجُرماً أخلاقياً يُنبذ صاحبه إلى كونه مجرد خدمة أو تعاون ومجاملة للقربي والمعارف، فإن هذه هي الكارثة الحقيقية التي تعانيها قاعدة المجتمع، القاعدة التي هي بالأساس عماد أي عملية تغيير أو تطوير ملموس، فما بالك حين يكونون هم حرّاس الفساد، يحورونه ويغلفونه ولكن بأسماء أخرى براقة.