عاش سعيدا من بقي في الظل! هكذا وصف ديكارت الفيلسوف الفرنسي حكمة العصر الذي عاش فيه. ولفهم دلالة مثل هذه الكلمات علينا أن نستعيد ظروف العصر الذي عاش فيه هذا الفيلسوف، الذي دفع حياته في النهاية ثمنا لجرأته على معارضة أفكار عصره وغول الكنيسة؛ فقد أرسلت له إلى السويد من يسممه فيدفن هناك في الثلوج بين الدببة القطبية. عاش ديكارت في زمن حروب الثلاثين عاما الدينية التي دارت رحاها على الأرض الألمانية (1618 1648) واشتركت فيها معظم دول أوربا. وهو ما دفعني للتصور أن صراعا مذهبيا وشيكا أن يحول أرض سوريا إلى مكان ارتطام مذهبي وحشي لا يبق ولا يذر. يقول الرب «وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا». يبدو أن ظلال الحرب الأهلية المرعبة يشير لها القرآن على نحو خفي في مقاربة بين البلاء الذي ينزل من السماء حمما وصواعق، أو زلازل وتسونامي تتفجر من الأرض ومن عمق المحيطات؛ فيقول الرب في سورة الأنعام «قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض». قبل الحرب يعاقب ويحاسب من آذى أحدا، وفي الحرب يعتبر من يقتل بطلا وطنيا تعلق على صدره النياشين. منه كانت الحرب جنونا وجريمة وإفلاسا أخلاقيا. وأفظعها على الإطلاق هي الحرب الأهلية المدمرة للنسيج الاجتماعي، الخاسر فيها الكل، والرابح فيها لا أحد. الكل يسعى إليها متحمسا، والكل يرجع منها نادما في وقت يتحول الوطن فيه إلى خرائب وأنقاض. في مثل هذه الحالة المأساوية اعتزل ديكارت الحرب وجلس في غرفة دافئة في الشتاء في مدينة أولم (Ulm) في جنوبألمانيا يستجمع فيها أفكاره وخرج برسالته القيمة في التحليل المنهجي للوصول إلى درك الحقائق. يقول نديم الجسر في كتابه قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن أن بداية الغزالي وديكارت كانت واحدة: الانطلاق من الشك للوصول إلى اليقين. فمن بدأ باليقين تزلزل في النهاية، ومن بدأ بالشك أعاد النظر فيما يسمى مسلمات، وطرح الأسئلة الجوهرية لاكتشاف الحقائق. بكلمة أدق الاقتراب من الحقيقة. وقد يكون كل اقتراب ابتعادا فلنتعلم التواضع في الاقتراب من وهج الحقيقة الحارق.