أنشئ معهد العالم العربي في باريس من أجل أن يكون نافذة يطل منها الغرب على الحضارة العربية العريقة، بهدف التعريف بثقافتهم بصورة أكثر إنصافاً وعلمية، لكن في السنوات الأخيرة شعر كثير من المثقفين العرب أن إشعاع المعهد الحضاري والإعلامي بدأ يخفت، فأتى اختيار السيدة منى خزندار لإدارة المعهد مثالياً في رأي كثيرين، كونها عملت فيه منذ فترة طويلة، وتعرف زواياه وخباياه قبل أن تصل إلى قمة الهرم الإداري فيه، كما تمتلك المؤهلات العلمية اللازمة لإدارته، فهي تتحدث الإنكليزية والفرنسية والإسبانية بطلاقة، وحاصلة على دبلوم في التاريخ، وليسانس في الفنون والأدب الفرنسي، وماجستير في اللغات الأجنبية من جامعة السوربون. والسيدة خزندار أول شخص، وامرأة، من منطقة الخليج، والسعودية تحديداً، يتبوأ هذا المنصب. “الشرق” التقت السيدة خزندار التي تزور المملكة لإلقاء محاضرة عن الدبلوماسية الثقافية في وزارة الخارجية: * يعتقد بعض الخليجيين أنهم مهمشون نسبياً في معهد العالم العربي، فهناك مناطق في العالم العربي تأخذ نصيب الأسد في تمثيل الحضارة العربية أمام المجتمعات الغربية. ما هي الأسباب، وما هي استراتيجيتك لعلاج هذا الأمر؟ بالنسبة للتمثيل الضعيف للخليجيين في معهد العالم العربي في باريس، فهو عائد إلى وقائع تاريخية: الوجود المكثّف لجاليات المغرب العربي، وبنسبة أقلّ الجالية الآتية من المشرق؛ القرب الجغرافي واللغوي؛ ووجود شبكة علاقات قديمة جداً. وفي الوقت نفسه، بسبب المسألة اللغوية، لكنّ الأمور في طريقها إلى التغيير، إذْ إنّ منطقة الخليج العربي، والسعودية على وجه الخصوص، لم تكن غائبة عن برامج المعهد، ولكنّها لم تكن بالمستوى الذي يليق بها. لذا قمتُ، فور اعتلائي منصب المديرة العامة، بعقد اتفاقات تعاون جديدة مع مؤسسات خليجية، وتوثيق تلك التي كانت موجودة، ومنها: التعاون مع مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي أقيم بناءً على طلبي في ديسمبر 2011، والذي سيُنفّذ بتنظيم نشاطات ثقافية مشتركة؛ ضمن البرمجة التي ستحتفل بذكرى مرور 25 عاماً على تأسيس المعهد، هناك تظاهرة رئيسية حول “الإبداع في العالم العربي”. وسيكون هذا النشاط مناسبة للتعريف بالفنانين، وعلى الأخص بموسيقيي منطقة الخليج العربي والمملكة العربية السعودية؛ من ناحية أخرى، تمّ تسليط الضوء بطريقة بارزة على الجزيرة العربية في المتحف الجديد الذي قام بفتح أبوابه في 20 فبراير الماضي. وبفضل إعارات الحكومة السعودية، تمّ تمثيل الحقبة الإسلامية في المتحف بعرض عدّة قطع أثرية أتت من الرياض. وبالإضافة إلى اتفاقيات التعاون هذه، فقد استغلّيتُ فرصة رحلاتي العديدة لهذه البلدان بالذات، للمبادرة بإقامة مشروعات جديدة وتوثيق التعاون الموجود. ومن بينها، أودّ أن أنوّه بالتعاون مع مكتبة الملك عبدالعزيز في الرياض، ومهرجان السينما والموسيقى في أبوظبي، وكذلك التعاون الحالي مع وزارة الثقافة العُمانية. * ماذا حدث بخصوص الموازنة المالية الخاصة بمعهد العالم العربي، وهل مازال مهدداً بالإغلاق وتوقف نشاطاته؟ - فيما يتعلّق بالموازنة المالية الخاصة بالمعهد، منذ أن توقّفت الدول العربية عام 1996 عن دفع التزاماتها الإجبارية، فإنّ فرنسا هي البلد العضو الوحيد التي لا تزال تدفع سنوياً حصّتها التي تمثّل 50 إلى 60 %من ميزانية المعهد. وبعد تطبيق سياسة تقشّف تُرجمت بتقليص عدد الموظفين وعدد النشاطات الثقافية، استرجع معهد العالم العربي منذ 2007 توازنه المالي، مما سمح له منذ مدة بتصعيد نشاطاته. * ثريا عبيد، ومنى خزندار، أمثلة على نساء سعوديات نجحن في منظمات سياسية وثقافية دولية، بينما لم نشهد تمثيلاً مماثلاً من قبل أشقائهن الرجال السعوديين في محافل دولية مستقلة. ما هي الأسباب من وجهة نظرك؟ - فيما يتعلق بنجاح نساء سعوديات في منظمات ثقافية وسياسية دولية أكثر من الرجال السعوديين، فإني أرى أن تعييني في منصبي في هذه المنظمة المعروفة هو قبل كل شيء اعتراف دولي بالدور الذي تلعبه المملكة. من ناحية أخرى، إنّ “التأنيث” الذي تشهدونه هو بالنسبة لي نتيجة آلية للخيار الاستراتيجي الذي اتخذته المملكة العربية السعودية في نطاق التعليم من خلال تشجيعه واستثماره، وخصوصاً للشابات. * تتشابك السياسة والديبلوماسية مع الثقافة. في حالة المعهد العربي في باريس هل استطاعت الثقافة تغيير الصورة النمطية عن العرب في أذهان الفرنسيين؟ وهل تنصحين بفتح معاهد مماثلة في دول مؤثرة من العالم تحمل الأهداف نفسها؟ - تأسس معهد العالم العربي عام 1980 بمبادرة فرنسية من أجل التعريف بالثقافة والحضارة العربية. إن التاريخ هذا ليس بريئاً: تم التفكير بهذا الموضوع في زمنٍ كان فيه التوتر بين العالم العربي والغرب في أوجه بعد حرب 1973، وأضيفت إليها المشكلات الاقتصادية الناتجة عن الثورة الإسلامية الإيرانية. وكانت المبادرة بمثابة خيار سياسي يدعو إلى تخفيف التوتر وإعطاء صورة أكثر إيجابية عن عالمنا العربي. كانت أيضاً فرصة لفرنسا لإعطاء صورة للخارج عنها كبلد “منفتح ثقافياً للتعرف على الثقافات والحضارات الأخرى، ومدافع عن التعددية الثقافية”، ممّا يجعلها في المقابل تحظى بصورة، وحسن ظن، إيجابيين. من وجهة النظر هذه، يمكننا القول أن معهد العالم العربي هو مؤسسة فريدة من نوعها في العالم، وتجمع بين الثقافة والدبلوماسية. وكمؤسسة تخضع للقانون الفرنسي الخاص، يمكن اعتبار المعهد “منظمة دولية مصغرة” بعض الشيء، إذْ إنّ جميع الدول الأعضاء المؤسسة (أي فرنسا و22 دولة من جامعة الدول العربية) يمثلها السفراء، وممثل وزارة الخارجية الفرنسية في المراجع القرارية. وافتتاح معاهد مماثلة في الدول الأخرى يمكن أن يكون له معنى ومنفعة في حال تم التعاضد بينها. * تزورين الرياض هذه المرة بدعوة من وزارة الخارجية لإلقاء محاضرة فيها كمديرة لمعهد ثقافي عالمي. ما هي أبعاد هذه الزيارة؟ وهل ستشكل انطلاقة لتعاون بين معهد العالم العربي ووزارة الخارجية السعودية؟ - من الضروري أن يكون هنالك معرفة أفضل لمعهد العالم العربي، ومن الممكن التعلم من هذه التجربة الفريدة، بما فيه منفعة لبلدي فيما يتعلق بالديبلوماسية الثقافية التي هي بالتحديد موضوع المحاضرة التي سألقيها في وزارة الخارجية السعودية. وفي هذا السياق، أغتنم هذه الفرصة للتقدم بالشكر العميق لصاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل لدعوته لي وثقته بي، كما أشكر الأمير محمد بن سعود بن خالد، وكيل وزارة الخارجية. وأرجو أن تسمح زيارتي للرياض بإضفاء دفعة جديد للعلاقات الثقافية بين وزارة الخارجية السعودية ومعهد العالم العربي، وأود أن أذكر أنه من المؤسسات التي تدخل في نطاق تأثير الخارجية الفرنسية.