أعلم يقينا أن ثمة ألسنة حدادا ستسلقني، لما أن أفضي بشيء جد يسير مما أخبره في الشأن القلق الذي تعيشه: «الحالة الفقهية» المتردية لدينا بوصفها نطيحة لا روح فيها! ذلك أن (ربعنا) فيما يظهر قد وهبوا أنفسهم حصانة -ما أنزل الله بها من سلطان ولا قام عليها من العقل الصحيح برهان- ولئن وهبوا أنفسهم تلك الحصانة فإنهم شاؤوا لأنفسهم: «قداسة» هي لم تكن بالضرورة التوحيدية سائغة للأئمة الكبار، فضلا عن أصاغر غاية دركهم الفقهي لا يمكنه أن يتجاوز قدر: (حفظ نثار مسائل مشوبة بخطل المتون، واستنساخ فتاوى من سبق دون تحرير) وحسبي أن الدين إنما هو: «الوحي كتاب وصحيح سنة» في حين أن التدين: «محض اجتهادات أنتجتها فهوم رجال» والأخير مرتهن بشرائط الزمان والمكان والعوائد و... و...!؛ ذلك لمن كان له فقه أو ألقى السمع وهو سديد. وبكل.. فهب أني قلت بإجمال ما يلي: – فقهنا يرزح تحت نير «الجزئية» غارق في بحرها اللجي.. يغشاه موج من فقه نظري افتراضي! من فوقه ظلمة العبث السياسي الوالغ في مستنقع: «ميكافيلية» من شأنها اجتراح التغيب السافر للأثر الفقهي على: «الأمة» إذ ليس له أدنى مساس بقضايا الناس الكبرى التي تغشى حيواتهم. – المسافة الشاسعة التي تفصل ما بين «المقاصد العليا» للشريعة وما عليه :(فقهنا) أبانت بجلاء عن ضعف صلة الفقهاء بالكتاب والسنة إذ استحالت غاية مشغولات الفقيه أثناء كثير من الوقائع والنوازل الفقهية استحالت مشغولاته: محض استدلال بالوحيين في سبيل الاستشهاد بهما انتصارا لما آل إليه عقله وفق محركات: «قياسه» أو «استحسانه» ليس غير! بينما افتقرنا للفقيه الذي يدير فقهه على رحى: الاستنباط من الكتاب والسنة. – ما من أحد سوى الفقهاء من يتحمل تبعة: (الفصام النكد) الذي انتهى أمرنا إليه واقعا من بعد الخلفاء الراشدين.. ذلك: الفصام النكد فيما بين القيادتين: الشرعية والسياسية -حسب الرؤية المسددة لطه العلواني- وأيما أحد يلم بشيء من فقه السياسية الشرعية يدرك فداحة هذا الخطب. – كما هو علم أصول الفقه حينما انحاز إلى اليبوسة (المفاهمية) بالاتجاه نحو: «التجريد» أضحى قرينا ل»علم الكلام»! كذلك هو الفقه لما أن ضعفت علاقته بعلم «المقاصد» أو كادت صلتهما أن تنبت بتنا نراه أكثر شبها بالقانون إذ الأخير شأنه ضبط العلاقات وبالشكلية يتسم في حين أن الفقه غايته هداية الناس وضبط العلاقات. – ما سبق أفرز فقهاء أشد شبها بالقانونيين ذلك أن حراكهم الفقهي يأتي وفق منطق رجل الدولة والأخيرة من شأنها أخذ الناس بمنطق الصرامة شدة وتعنتا وفق مقتضى سياسي هو مسوغ لديها في حين كان يفترض في الفقهاء أن يتوافروا على خطاب يأخذ الناس نحو التيسير والرحمة والرأفة و... و... وأيا يكن الأمر.. فليس من شأن المقالة هاهنا الاستفصال لما سلف بقدر ما هو تمهيد أبتغي منه تهيئتكم لأن تقرؤوا معي نص أبي حامد الغزالي -المتوفى في العام505- وهو يشخص: «الحالة» شغلي في نصه أني رقمته على هذا النحو: (- الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة؛ علماء بالله تعالى، فقهاء في أحكامه، وكانوا مشتغلين بالفتاوى في الأقضية؛ فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرا في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا لها وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم... – فلما أفضت الخلافة من بعدهم إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، اضطروا -الخلفاء الجدد- إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم. – وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا؛ فاضطر الخلفاء -الذين تولوا الخلافة بغير استحقاق- إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات. – فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء، وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم فاشرأبوا -المتأخرون من المتفقهة- لطلب العلم توصلا إلى نيل العز، ودرك الجاه من قبل الولاة فأبوا على الفتاوى، وعرضوا أنفسهم على الولاة وتعرفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصلات منهم؛ فمنهم من حرم ومنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال. – فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين: أذلة بالإقبال عليهم إلا من وفقه الله تعالى في عصره من علماء دين الله. – وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى، والأقضية لشدة الحاجات إليها في الولايات والحكومات. – ... فأكب الناس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات. وزعموا أن غرضهم: «الذب عن دين الله والنضال عن السنة وقمع المبتدعة» كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى: الدين وتقلد أحكام المسلمين إشفاقا على خلق الله ونصيحة لهم. – وفتح -الفقيه- باب المناظرة فيه لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد. – ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص؛ فترك الناس الكلام وفنون العلم، وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد -رحمهم الله تعالى- وغيرهم. – وزعموا أن غرضهم: استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذاهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنفيات، وهم مستمرون عليه إلى الآن. ولسنا ندري ما الذي يحدث الله فيما بعدنا من الأعصار. – فهذا الباعث على الإكباب على: «الخلافيات والمناظرات» لا غير! ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة، وإلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضا معهم، ولم يسكتوا عن التعليل بأن ما اشتغلوا به هو: «علم الدين»، وأن لا مطلب لهم سوى: «التقرب إلى رب العالمين».) انظر الإحياء 1/3 وما بعدها.