للهجرة في طلب العلم فوائد لا ينبغي أن تقتصر على التحصيل العلمي فقط وإنما هي إضافة إلى ذلك وسيلة للتبادل الثقافي والحضاري ومد جسور التواصل بين الحضارات والمجتمعات. وقد جاء في الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»، وواضح هنا أن لفظة العلم لا تقتصر على العلم الديني فحسب، وأن «طلب العلم» تعني السعي والهجرة إليه، وقال الإمام علي رضي الله عنه: «الحكمة ضالة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهلها». في تقديري هناك ضرورة لزيادة أعداد المبتعثين في الخارج فنسبة المبتعثين في المملكة 2% بينما نسبة المبتعثين في البحرين وقطر والكويت 13% وإذا كانت خطة الابتعاث لدينا تشمل مائة ألف خلال عشر سنوات فيعني أن هناك (10) آلاف خريج سنوياً وهذا الرقم يبدو متواضعا مقارنة بأمثاله من الدول الراغبة في التقدم كما هو الحال في الصين وسنغافورة وماليزيا ولنأخذ كوريا الجنوبية مثالا نجد أن لديها (100) ألف طالب يلتحقون سنوياً في أهم الجامعات الأمريكية مما يعني الحصول على مليون خريج خلال عشر سنوات وهكذا تتشكل قوة المجتمع بقوة كفاءاته. إن أول محطات الاشتباك الاجتماعي بالنسبة للطلاب وهم في الخارج تأتي بأسئلة متعددة منها: هل إهداء الورد من عاداتنا؟ هل الاحتفال بأعياد الميلاد من عاداتنا؟ لماذا الأب العربي لا يحفظ تواريخ ميلاد زوجته وأبنائه؟ وهل الفرح هذا الشعور الإنساني الرائع الذي خلقه الله فينا فطرياً من الممنوعات؟. يمكننا تقسيم الطلاب في الخارج وهم يتفاعلون مع الحياة إلى ثلاث فئات أولها: من أصيبوا بحالة انبهار بالغرب واستسلموا إليه معجبين إلى درجة التنازل عن بعض قيمهم! والفئة الثانية: أخذت خيار الانكفاء والقطيعة بعنوان عدم التشبه بالكفار! أما الفئة الثالثة: فهم الذين تواصلوا مع هذه الأمم المتقدمة واستفادوا من تجاربها وفي الوقت نفسه حافظوا على دينهم وقيمهم ولسان حالهم يقول: ما قيمة الحياة من دون مناسبات فرح؟ في هذه السطور نحاول القول: إن حضارتنا ليست فقيرة ولا متجهمة وسنقترب من محطة تراثية لنعرف أن الشعور بالفرح وهو حسي وفطري لكن صور التعبير عنه اكتساب وابتكار وبعض الأحيان هو رسالة دينية مسكونة بالوقار والهيبة. الشيخ سلمان العودة سمعته أكثر من مرة يبيح احتفال المرء بعيد ميلاد من يحب ولا يرى في الاحتفال جريرة، وحدثني الفقيه سيد منير الخباز بأنه جائز ما لم يقترن بمحرم، فالاحتفال بالمناسبات يجدد العلاقات ويضفي نكهة فرح على الحياة ويجعل نهر الحب يتدفق باستمرار. جميع المناسبات والتجمعات مرتبطة تاريخياً بالثقافة السائدة وكأن الناظر إلى واقعنا يرصد الهوة الواسعة بين ممارسات الفرح في مجتمعنا وبين تراثنا التاريخي الحافل بتفاصيل دقيقة مما يعكس عمق حضارتنا العربية والإسلامية ولو أخذنا على سبيل المثال لفظ (العيد) نجد أنها كلمة تطلق على كل يوم فيه جمع وسمي العيد عيداً لعودته مرة بعد مرة ولفظ (الوليمة) باعتبارها أسلوبا قديما وتقليديا للمناسبات الاجتماعية مشتقة من الولم وهو الجمع. فالإنسان عندما يسكن في منزل جديد يدعو الناس إليه وهي دعوة مرتبطة تاريخياً بوليمة (الوكيرة) وهي مأخوذة من الوكر (وهو المأوى والمستقر). فما الذي يمنع من باقة ورد جميلة؟ لا سيما وأن هناك شواهد كثيرة على العلاقة الحميمة بين الأقدمين والورد يقول ابن المعتز في شعره: أتاك الورد مبيضاً مصونا كمعشوق تكنفه الصدود كأن وجوهه لما توافت نجوم في مطلعها السعود بياض في جوانبه احمرار كما احمرت من الخجل الخدود وعندما يرزق المرء بمولود فأنها وليمة (العقيقة) وهي مأخوذة من: اسم للشاة المذبوحة عن المولود يوم السابع من ولادته وهي سنة نبوية فما الذي يمنع من حلويات وشموع بعد مضي أعوام على ميلاده؟ وكذلك وليمة (الخرس) ويقال: الخرسة وهو الطعام الذي يصنع لسلامة المرأة من الطلق والنفاس وهو الولادة وهي ممارسة اجتماعية راقية تدل على الاهتمام بالمرأة وقد صادق على هذا الاهتمام توفيق الحكيم (عقل المرأة إذا ذبل ومات فقد ذبل عقل الأمة كلها ومات). بل إن هناك الوليمة العلمية وهي واحدة من العادات الجميلة التي عرفت عند المتقدمين وللأسف لم تترسخ في ممارساتنا الحياتية فتولم الوليمة إذا أتم الطالب حفظه للقرآن وهي وليمة (الحذاقة) وتسمى التحلية – وهي الإطعام عند ختم القرآن وهي تشبه إلى حد كبير يوم الخريج في الجامعات الحديثة. والمدهش أن بعض المناسبات الاجتماعية تغيرت إلى ضدها فمثلاً وليمة (الوخيمة) وهي ما يولم عند موت إنسان يصنعها جيرانه وأقاربه لأنهم انشغلوا بالمصيبة والدليل قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) :»اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد جاءهم ما يشغلهم» وذلك حين بلغه نبأ استشهاد جعفر رضي الله عنه بينما نجد أصحاب المصيبة اليوم ينشغلون بضيافة الناس بدلاً من مساعدة الناس لهم! وهناك وليمة (النقيعة) وهي الدعوة لقدوم المسافر مأخوذة من النقع وهو (الغبار) وهو مستحب يصنعونه للقادم وكذلك (المأدبة) وهي الضيافة التي تعمل بلا سبب ويقول ابن العماد: سميت مأدبة لاجتماع الناس لها لأنها تقع على كل طعام يصنع ويدعى عليه الناس وخصوصاً الأصدقاء. أما وليمة (النزل) فهي لإطعام من ينزل عليك لضرورة ملحة وأخيراً هناك وليمة (القرى) وهي لإطعام الضيف ولعل حاتم الطائي حاضر في الوجدان العربي وهو يقدم الابتسامة والاتيكيت الراقي في الضيافة حين يقول: أضاحك ضيفي عند إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب وما الخصب للأضياف أن تكثر (القرى) ولكنما وجه الكريم خصيب