يأتي معرض الرياض الدولي للكتاب الذي تنظمه وزارة الثقافة كل عام ليحل ضيفاً عزيزاً على المدينة التي غيرت وجه الصحراء وأصبح منارة علم وفكر وأدب في قلبها. حاملاً شعار (القراءة... حياة)! في رؤية جميلة تؤطر القراءة لأبعد من كونها ممارسة عقلية فردية، لتجعلها ثقافة مجتمعية تحيا بالأفراد الفاعلين في المجتمع. فالقراءة منذ قوله تعالى في أول ما أنزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وحتى قوله: (الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)، هي دعوة للمعرفة موثقة بأول أمر إلهي ينزّل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ففي تفسير سيد قطب لهذه السورة الكريمة يقول «إنها السورة الأولى من هذا القرآن، فهي تبدأ باسم الله، وتوجه الرسول أول ما توجه، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها. وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم، تعليم الرب للإنسان (بالقلم) لأن القلم كان ولايزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثراً في حياة الإنسان. والله يعلم قيمة القلم فيشير إليه في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية». وفي تعريف القراءة، يقول الكاتب المغربي بودريس درهمان بتصريف «قامت منظمة اليونسكو في عام 1951 بتعريف مفهوم القراءة على إنها هي قدرة شخص ما على القراءة والكتابة في شكلها المبسط المرتبط بالتعاملات اليومية. لكن في أواسط الستينات تطور المفهوم ويطفو على السطح مفهوم جديد للقراءة وهو مفهوم القراءة الوظيفية، وهي التي تأخذ أشكالا أكثر احترافية في القراءة حيث تم تحديد هذا المفهوم في عام 1978 على أنه يعد من الناحية الوظيفية أمياً كل من لا يستطيع توظيف القراءة والكتابة من أجل تنمية قدراته وقدرات الجماعة أو الأمة التي ينتمي إليها»، أي أن يكون على مستوى من الإنتاجية الفكرية والتفاعلية النقدية مع محيطه عبر هذه الأدوات. وعودة إلى معرض الرياض الدولي للكتاب 2012م، الذي كان من 6 إلى 16 مارس، وشهد إقبالا كبيرا، حيث قام بزيارة المعرض أكثر من مليوني زائر، بينما تجاوزت المبيعات حسب التقديرات 25 مليون ريال خلال عشرة أيام! لقد قمت بتدوين هذه التأملات على هامش زيارتي للمعرض، وبيني وبين معارض الكتب قصة عشق لن تنتهي نشأت منذ أول زيارة في حياتي لمعارض الكتب وحتى زيارتي هذه لمعرض الكتاب في الرياض التي كانت الأولى بالنسبة لي، حيث زرت قبلاً معارض كتب في عواصم أخرى، لكن معرض الكتاب في الرياض كان ذا نكهة خاصة، فعلى مدى السنوات الماضية التي بدأ بها نشاط المعرض، كانت تصلني أصداء المعرض عبر ضجيج صفحات الجرائد ومنتديات النت، هو بالأصح ضجيج الفكر من جهة، وضجيج الفكر المضاد من جهة أخرى، كل هذا حرضني على زيارته، كما حرضني الفضول؛ فضول المعرفة، وفضول القراءة. بداية، كانت كل الطرق المؤدية إلى معرض الكتاب تعج بالزحام وبالحفريات حتى أصبحت شبه مغلقة، زحام لم أشهد مثله خصوصا في وجود سيارات تحمل لوحا من دول مجاورة، جاءت لتشارك في هذا التظاهر المعرفي الكبير. البوابات الخارجية كانت مغلقة ربما بسبب الزحام! بينما في الطريق إلى بوابة الدخول تفاجأت بوجود مدخلين واحد للنساء وآخر للرجال! ليس هذا فحسب، بل كان هنالك تفتيش ذاتي وتفتيش على الحقائب الشخصية! هكذا أمر لم يصادفني إلا في المطارات وخاصة بعد 11 سبتمبر! فهل يحتاج الكتاب إلى هكذا استنفار وتوجس؟! أم هل أصبحت الكتب قنابل موقوتة نخشى من انفجارها؟! تأملات كانت تصاحبني بينما أسير نحو الداخل، حيث كان الزحام شديدا، لكن التنظيم كان رائعاً على مستوى الإدارة وتخصيص منصات لتوقيع الكتب وأماكن للمحاضرات وتنظيم مواقع دور النشر، وتخصيص أروقة المعرض بأسماء الأدباء السعوديين، لكن أكثر ما أحببت في المعرض ذلك السجاد الأحمر الذي كان يفرش للصلاة حينما يحين موعدها، فتصبح أروقة المعرض خالية! يصاحب المعرض منذ بدايات عهد تنظيمه إلى وزارة الثقافة زخم في الإنتاج السعودي الأدبي، وهو مجهود تشكر عليه وزارة الثقافة، ويتجلى انعكاس ذلك بصورة أكبر على أعداد الكتاب السعوديين والكتب الحديثة الإصدار الموقعة يومياً، هذا الحراك الإنتاجي على مستوى الطباعة والنشر في المملكة العربية السعودية وإن كان يصاحبه الكثير من النقد، لأنه مازال في مراحله الأولى، لكن ينبئ بتطور في البنية الأساسية المعرفية للمجتمع، لأن الكتابة والقراءة أدوات حضارية للتعبير عن وجهات النظر ووسيلة للنقد داخل المجتمع بعيداً عن أدوات الصدام. في اعتقادي، أن هذا التعطش للقراءة والمعرفة، وإن كانت في ظاهرها قراءة استهلاكية تعمد إلى شراء الكتب ببذخ وركنها على الأرفف في الأغلب لا لقراءتها قراءة منتجة. ستولد لاحقاً أشكالا أخرى من القراءة أكثر نضجاً وعمقاً ونقداً ذاتياً، فالقراءة هي دائما عامل محفز على التفكير، كما هي وسيلة لتحرر الفكر من قيود الوصاية، لذا رغم الضجيج الذي يرافق المعرض كل عام إلا أنه يعني أنها ظاهرة صحية وإن كانت تمتاز بخصوصية محلية، فالفارق بين كل معارض الكتب التي عرفتها سابقاً، أنها كانت تعبر بسلام وتحتل مكانها المناسب في صفحات الثقافة والأدب في الصحافة والإعلام، دون أن تثير معارك صاخبة أو حالة استنفار أو تحتل منابر خطب الجمعة، أو تقودنا إلى نقاشات جانبية متفرعة عن المرأة والحكم الشرعي لخروجها للمعرض وشرائها للكتب! زيارة واحدة لم تكف بالتأكيد لجمع كل ما أحب من كتب تنوعت ما بين القانون والسياسة والأدب وحقوق المرأة، وبالتأكيد لم يفتني أن أعرج على دار الطليعة لأقتني آخر منشورات غادة السمان، أستاذتي الأولى في الكتابة منذ بدأت رحلتي مع القلم.