انتشرت خلال الفترة الماضية ظاهرة السخرية بجزء دقيق من الموروث الثقافي، وقد بدأ مسلسل الاستهزاء هذا بإطلاق الدعابات الساخرة «النكت» الشعبية، التي يتم إرسالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتحديد من خلال «الواتسآب» بشكل أكثر، وهو الاستهزاء بالمرأة السعودية أو الرجل السعودي، وكأن شعوب المنطقة لا يوجد فيها إلا هؤلاء للنيل منهم، علمًا بأن المرسل أو المستقبل هو أحد هذين الصنفين – رجل أو امرأة ولعل مصدر هذه « » السخيفة مجهول المصدر. من المعروف أن مثل هذه السخريات تبدأ كدعابات بريئة تنتشر بين الناس، ويستقبلها الجميع بحسن نية، لكنها تكبر وتنتفخ مثل كرة الثلج التي تتدحرج فوق الرمال، إلى أن تحمل معها كل ما هب ودبّ وما سقط على الأرض، إلى أن تصبح ممتلئة بكل ما هو لا شيء، وحينما يحاول المرء البحث عن كرة الثلج الأساسية لن يجدها في هذا الركام؛ لأنها ضاعت وذابت وبقيت العوالق التي تماسكت بحكم الدحرجة، وهذا الوضع يكشف أن مثل هذه «النكت» المرسلة عبر فضاء التواصل الإلكتروني ما هي إلا صورة صادقة ودقيقة لصورة كرة الثلج التي تعفّرت بالتراب. استمرأ الناس مثل هذه الدعابات التي تعلو وتهبط في مسالك التجريح بالمجتمع المكوّن منّا نحن جميعًا، وإن كان بعض الخيّرين والخيّرات من أبناء هذا الشعب يرسلون دعوات تنبيه وصرخات استغاثة للالتفات لهذا الوضع، وإن تأثر بهذا التوجيه بعض الصادقين، لكن سرعان ما يتناسونها أو ينسونها بسبب كثرتها لتعود عجلة كرة الثلج من جديد تتدحرج بين العوالق الترابية. ما دعاني لتحبير هذه الصفحة وكتابة كل الأسطر السابقة، ليس هذه «النكت» السمجة المشبوهة الغرض بالدرجة الأولى، رغم أهمية الالتفات لمثل هذا الوضع من النخب الفكرية والثقافية التي عليها تحمُّل مسؤوليتها الوطنية ضد هذا التيار الجارف المشحون بكل ما هو مسيء للفرد والمجتمع في بلادنا الغالية، وإنما نوع جديد لا يقلّ خطورة عن هذه «النكت» السمجة؟ وهو الاستهزاء بجزء مهم وعظيم من الموروث الثقافي، وهو الاستخفاف بقيمة ما كان يصدره العرب من حكم اجتماعية، التي منها هذه المقولة المسمومة «قال حكيم: السمكة التي تغلق فمها لن يصطادها أحد. فقال أحدهم: وإذا صادوها بشبك. فقال الحكيم: أنت من وين. قال: أنا سعودي. فقال الحكيم: يا خي متى تعقلون؟»، فهذا النوع من التهريج «صاد عصفورين بحجر واحد»، كما يقال، الأول الاستخفاف بهذا الشعب، بينما الثاني: عرض صورة للموروث الثقافي بطريقة تضجّ بالانتقاص والسخرية. وكذلك هذه المقولة السمجة «سُئل حكيم: كم عمرك؟ فأجاب: صحتي جيدة. ثم سُئل: هل لديك نقود؟ فأجاب: ليس عليّ ديون!. ثم سئل: تستهبل؟ فقال: لا والله بس تعرف حكيم لازم أصير غامض»، وهذا الكلام فيه تعريض بالحكماء القدماء، وأنهم مجموعة من المعقدين، علمًا بأن هؤلاء الحكماء الذين ملأت عباراتهم النبضة بالفكر والوعي كتب الأدب والتاريخ، هم من أسهموا في بناء الحضارة العربية الإسلامية التي بسطت أروقتها وأغصانها الوافرة على قارات العالم القديم الثلاث قرونًا من الزمن، وكانت لكلماتهم المعبرة الأثر النفسي والتربوي في سلوكيات من قدموا للبشرية كل تلك الحضارة العظيمة. مثل هذه الأعمال التي تنتقص من مجتمعنا الوطني، ومن عمقنا الثقافي الضارب في القِدم لا بد من الانتباه لها، ويجب التوقف عن هذا النزيف الناخر للضمير والفكر والوعي، فالذي لا يحترم أهله لا تهابه الجيران، والذين يسخرون من تاريخهم لن يقدرهم الآخرون، وكل من أرخص نفسه سقط في أعين الجميع. الأبواب لا تُفتح من الخارج، وسور مأرب نخرت فيه الفئران، والتسلح بالعلم والتطور لا يعني السخرية بالماضي والاستخفاف بالأجداد، والتطلع للتحضر والمدنية لا يقوم على سحق الذات بحجة التخلص من عوامل التخلف ومبررات الفشل. كل الشعوب التي انسلخت من موروثها الديني والثقافي والأخلاقي والقيمي ذابت تحت أقدام الطامعين، وكل شعب فرض نفسه على الجميع عاد لتراثه وماضيه، استلهم ما فيه، وتخلص من شوائبه، ثم أعاد صياغته من جديد بروح عصرية متطورة، والزمن الماضي والحالي يضجّ بالأمثلة لأمم ودول كانت في مؤخرة التسلسل العالمي، لكنها حينما نفضت عن كاهلها رداء التبعية للآخرين والسخرية بماضيها فرضت نفسها على بقية الشعوب. ما يحز بالنفس أن بعضًا من المندفعين لكل ما هو قادم من الخارج يهربون من ماضيهم فرار الجمل، ويتفلتون من موروثهم تفلّت البعير من عقاله، واهمين بأن في مثل هذه الممارسات سيكبرون، غير أنهم في حقيقة الأمر يتدحرجون في مهاوي السقوط.