بعضهم تطحنه عجلة مشاغل الحياة فينسى نصيبه من الترويح والراحة، وهذا ينذر بعطب القلب والروح والجسد سريعاً، من أجل ذلك يصبح انتشال النفس من ضغوطها وواجباتها حتمياً حتى لا يهين الجسد ويلوكه الجهد والملل. ومن أجمل تلك الانتشالات إهداء الذات بطاقة مرور نحو بقعة أخرى من هذا العالم المديد.. (تغرب عن الأوطان في طلب العلا/ وسافر ففي الأسفار خمس فوائد/ تفريج هم واكتساب معيشة/ وعلم وآداب وصحبة ماجد) فهل يا ترى وصية الشافعي ذات الفوائد الخمس ما زالت سارية المفعول؟! حتماً إن من بواطن السفر الحسنة: طرد التشتت والتشويش الذهني بالاستجمام الجسدي لاستجماع القوى الروحية بغية العودة بقوة للأعمال المتراتبة والمتكررة في جدول يومياتنا. فكم ضائق مهموم عاد بعد سفره بمزاج صاف ورائق، وكم مسافر خرج من داره شريداً طريداً رزق في سفره العمل والمال. ولا يخفى علينا مدى التميز الفكري والمنطقي في شخصية من يسافر، ناهيك عن المرونة ومهارة الاتصال والطلاقة وحسن التصرف التي اكتسبها من مخالطة من هم يختلفون عنه. (فتالله ما قطع الطريق عاقل إلا باحثاً عن حكمة كهل ووصية نبي ونزاهة عابد، فنراه يسابق سيقان الريح وأجنحة الطير مرتحلاً بين الحضارات والممالك بحثاً عن فجوة يلج منها للعالم المثالي الذي يصبو إليه). هذا، وبعد تحديد الدافع الأسمى للسفر تأتي مرحلة اختيار الصديق، وهذه لعمري المرحلة الأهم، بيد أن الرحلات أنواع، بعضها يسمح لك باختيار رفيق الرحلة وفق معاييرك ومشاعريتك، وبعضها الظروف وملابسات السفر والعمل والمصلحة المشتركة تفرض عليك مرافقته. فكم فرضت علينا الظروف مصاحبة من معرفتنا بهم سطحية لنتفاجأ بهم في السفر أنهم رمز لحلاوة الحديث ومتعة المصاحبة. والعكس صحيح، فكم ظننا ظناً حسناً في أحدهم فأتت الرحلة لتكشف ستر رداءة صحبته وبخله وأنانية روحه. من أجل ذلك الحذر الحذر من مصاحبة من يحملوننا عناء المسافات لنخرج بسببهم من الرحلة خاصتنا صفر اليدين!