إن اختراع الإنترنت وما حمله من خير وشر لا يقل أهمية عن اكتشاف البشرية للنار واختراع العجلة والمحرك البخاري. إذ لم تشهد البشرية قاطبة انفجاراً معلوماتيّاً كالذي تشهده في الوقت الراهن. فبعد أن كان استخدامه مقصوراً على المجالات العسكرية والعلمية أصبح بمقدور الجميع الاستفادة من هذا الاختراع وإثراء المحتوى المعلوماتي للبشرية. ففي العامين المنصرمين فقط بلغت المعلومات المدخلة إلى الإنترنت قرابة 90 % من محتوى الإنترنت ككل، والفضل في ذلك يعود إلى مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع مشاركة ملفات الصور والفيديو، فأصبح بإمكان كل فرد أن يصبح إعلاميّاً متنقلاً مدججاً بأحدث الأجهزة التي تمكِّنه من مشاركة المعلومة في التوّ واللحظة بالصوت والصورة، وأمسى بمقدوره الوصول إلى معلومات كان أسلافه يقطعون ظهور الإبل ليبلغوها دون أن يقوم من مقامه. أصبح الإنترنت ميداناً لتنافس أصحاب المواقع الإلكترونية والمنظمات الربحية وغير الربحية في سبيل وصول عدد أكبر من الناس إلى صفحتها على الشبكة العنكبوتية من خلال زيادة فرص ظهور موقعها في محركات البحث الشهيرة، إلا أن هناك مواقع إلكترونية حرصت على البقاء تحت أستار الظلام وسعت لعدم تمكين محركات البحث التقليدية من العثور عليها لكي تتمكن من ممارسة نشاطها غير القانوني، وبيع بضاعتها غير المزجاة -مع الأسف- بكل حرية والبقاء بعيداً عن أعين السلطات الرسمية. المصيبة تكمن في حجم هذه المواقع التي تعرف باسم "الإنترنت الخفي أو العميق". إن كل ما يمكنك الوصول إليه عن طريق محرك البحث الشهير جوجل وغيره يسمى إنترنت السطح، أما ما يوجد في الأعماق فأضعاف ذلك بكثير. يصعب تقدير حجم الإنترنت الخفي بسبب إخفاء البيانات أو صعوبة الوصول إليها لكن التقديرات تشير إلى وصول حجمه إلى قرابة 400 ضعف الإنترنت المتاح لك. شبه ريتشارد بيرغمان المتخصص في شؤون المعلوماتية تصفُّح الإنترنت المتاح "أو إنترنت السطح" باصطياد السمك من السطح. فرغم أن كمية السمك المصطاد قد تكون كبيرة إلا أن السمك في أعماق البحر أكبر بكثير. إن وصف الإنترنت الخفي بتعبير "غير متاح للجميع" هو تعبير يفتقر للدقة بعض الشيء، فكما يستخدم الغواص أدوات خاصة كأسطوانة الأوكسجين والزعانف البشرية للغوص في الأعماق والوصول إلى كائنات لا تعيش على سطح البحر، يستخدم غواصو الإنترنت العميق متصفحات ومحركات بحث خاصة تمكنهم من الوصول إلى مرادهم بكل يسر وسهولة. غالباً ما تكون تلك المواقع الخفية عبارة عن أسواق سوداء يتم فيها تداول بضائع غير قانونية وتقديم خدمات تجرمها السلطات الرسمية. يمكن لزائر هذه المواقع ممارسة كل رذيلة وكل منكر غير أخلاقي بدءاً من تزوير العملات ومروراً بتوفير أرقام لبطاقات ائتمان مسروقة وانتهاءً بتعيين قاتل مأجور. غالباً ما تتم العمليات التجارية في هذه المواقع باستخدام العملات الافتراضية مثل البتكوين التي يصعب تعقبها. أحد هذه المواقع المشهورة يسمى "طريق الحرير" ويقدم منصة لتجارة المخدرات والأسلحة بلغت مبيعاته ملياراً ومائتي مليون دولار تقريباً. مؤسس هذا الموقع يدعى "روس ألبرشت" وقد حقق ثروة طائلة من ورائه. درس "روس ألبرشت" الفيزياء، ثم ما لبث أن تغيرت اهتماماته إلى الحاسب الآلي والشبكات المعلوماتية. كان الدافع وراء إنشاء هذا الموقع الشيطاني هو إيمان مؤسسه بمبدأ الحرية الفردية للبشر الذي يعد إحدى أفكار المدرسة الاقتصادية النمساوية. يدعو هذا المبدأ إلى عدم تمكين أي قوى سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية من التحكم في أفعال البشر؛ إذ يؤكد على أن الفرد هو نواة الاقتصاد واختيارات الأفراد هي التي تصنع الاقتصاد لا اختيارات الجماعة. على الرغم من أن هذا المبدأ هو مبدأ اقتصادي بحت، إلا أن "ألبرشت" وظفه لتقديم حرية غير منضبطة للناس. لذا أنشأ بيئة اقتصادية وسوقاً محاكياً لما قد يصبح عليه المجتمع عند جعل الناس يعيشون تجربة التعامل التجاري فيما بينهم دون وجود أي سلطة أو ضوابط عليهم. تم الحكم على "روس ألبرشت" بالسجن المؤبد عام 2015 دون إمكانية إطلاق السراح المشروط لتُختم فصول قصة فتى أراد أن يكون أسطورة في تطبيق فلسفة اقتصادية لينتهي به الأمر ليصبح أيقونة للشر.