بعض الأنظمة قد تجني على الشخص صحياً ونفسياً، ولكن على المدى البعيد ومن حيث لا يشعر! ليس لأنها في ذاتها ضرر، ولكن لما قد ينشأ نتيجة لهذه الأنظمة من معتقدات ومبادئ خاطئة لدى الفرد، تتسلط على الشخص بشكل تدريجي، وتعززها نظرة المجتمع لهذا الفرد وثقتهم به بعد سنٍ معينة أو سنوات من العمل المتواصل، التي خلالها لم تحظ هذه المعتقدات بشيء من التقويم أو التقدير أو التصحيح من نفس الشخص أو ممن هم حوله. وكمثال على ذلك نظام التأمينات الاجتماعية مع ما فيه من مصالح، إلا أنه مع مرور السنين قد يولد لدى الفرد شعورا سلبيا، نراه ظاهراً في تصرفاته وطريقة تفكيره وتوجساته وهواجسه وذلك بعد ما يقارب من خمس وعشرين سنة من العمل المتواصل. هذا الشعور الذي أشبه ما يكون باليقينيات بعد هذه الفترة تتمثل في داخل الفرد في أن قواه قد ضعفت وقدراته قلت وإمكاناته تقلصت، وذلك حق بلاشك، ولكن ما يجب معرفته أن هذا الضعف يكون في جانب دون آخر، ووجوده لا يعد أمراً سلبياً، فالضعف الفطري هو ما لا يملك معه الإنسان حولا ولا قوة ولكن ما يذم عليه الفرد هو الضعف الذي يُتخذ عادة كمبرر لما لم يتحصل عليه الفرد مما تشتهيه وتتطلبه النفس البشرية نتيجة عدم الأخذ بالأسباب أو الاستسلام لشعور النقص أو الحرمان. ولأنه في نفس الوقت تزداد قوة الإنسان يوماً بعد يوم من الناحية العقلية والفكرية وهو الأهم من مجرد القوة البدنية، نجد أن لكل مرحلة من مراحل عمر الإنسان ضعفا وقوة يجتمعان ولا يتضادان. وما نراه من تغيير يطرأ على أنماط عمل الأفراد بعد التقدم في العمر ليس بالضرورة بسبب ضعف القوى البدنية، فقد يكون نتيجة اكتساب خبرات أكثر وتجارب أعم، جعلت القيام بالعمل أكثر مرونة وأسهل في الإنجاز، دون أن يتطلب إنجازه الجهد البدني السابق. وكمثال آخر على سلبية الأنظمة التي تحدد بالأعمار أو السنوات، ما تنص عليه بعض الدول على أن العمر للحرية الشخصية للفرد – الذكر والأنثى- يبدأ عند 18 سنة، فتجد أنها تولد لدى المجتمع نظرة هي أقرب للسلبية والضعف نحو هذا الشاب وأنه ما يزال تحت خط المسؤولية وأن تكليفه بشيء هو بمنزلة العقاب له وأن تركيبته العقلية لا تزال قيد الإنشاء وبالتالي قد يحرم من استغلال أقل حقوقه وهو العقل. وأما من جانب الشاب فإنه ينتظر هذه السن عادة لا لفعل ما هو إيجابي ولكن لتجاوز الخطوط الحمراء التي كان يُحذر منها نتيجة عدم بلوغه هذه السن. إن مما هو متعارف عليه في كثير من دول العالم أن هناك أمرين لا يمكن الانقطاع عنهما بحال من الأحوال إلا بالعجز الكلي ألا وهما العلم والعمل، ففي السابق لم يكن هناك ما يسمى بالعطلة الأسبوعية أو الإجازة السنوية، فجميع الأيام بالنسبة للرجل والمرأة هي للعلم و العمل، ولأن الرجل يجني قوته بشكل يومي، لا يتصور أن ترد على أفكاره أو معجم مفرداته لفظة «تقاعد» أو «عطلة» أو نحوهما. ولو فرضنا أن النظام أقر رفع التقاعد المبكر إلى ثلاثين سنة لتغيرت نظرة الناس إلى طاقة الموظف وقدراته. بالتالي هو مجرد شعور ولده وجود نظام معين يحدد للفرد سنوات معينة أو عمر معين للعمل. هذا الشعور المزعج لن يتوقف عند هذا الحد بل يزيد وطأته وتأثيره ما قد يعانيه الموظف بعد التقاعد نتيجة الفراغ، وهذا الفراغ هو نتيجة طبيعية لأي موظف كانت نظرته للحياة قاصرة على سنوات عمله الوظيفي، على عكس من كان يرى سنين الوظيفة على أنها مجرد مرحلة أو نقطة في بحر الحياة وأن الحياة بمجملها عبارة عن مجموعة فرص في انتظار من ينتهزها، ولاشك أن هذه الفئة هم أسعد الناس بعد التقاعد، فهم ممن لا يعتريهم أي شعور بالضعف أو العجز وهم من اتبعوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا» وإن لم يكونوا سمعوا بهذا التوجيه النبوي.