نهاية هذا الشهر يتوقف موظفون كثيرون عن العمل لتقاعدهم، ليس هذا المثير إنما الإثارة فيمن يطلب التقاعد مبكراً، هذا مؤشر إما لحالة سلبية أو إيجابية، أما الأولى فلأن بيئات الوظائف طاردة ومملة للموظفين، فمتى فتحت لهم نافذة للهروب هربوا، وهي البطالة المقنّعة في حقيقتها. وأما الثانية لأن هذا البلد معطاء ومبارك تخرج من خير إلى خير أكثر وهذا الصحيح. ليتنبه المتقاعد قبل تقاعده المبكر أو النظامي أن يلتفت لمجتمعه ويخالطه ويمارس عاداته وتقاليده، ليندمج معه بعد تقاعده، حتى لا يصاب بالاكتئاب، والعزلة السلبية ليعجزه التأقلم مع حياة الآخرين. التقاعد تجديد روح، ووضع همّ حمله الإنسان سنوات عديدة، كما أنه بداية حياة جديدة لتحقيق أهداف أشغلت عنها الوظائف الرسمية ببيروقراطياتها الرتيبة، وانطلاقة بلا قيود و لا حدود، وإدارة ذاتية يتلذذ بإنتاجها، وصلة وبر وسياحة. ليس التقاعد كما تقول العامة: «موت قاعد» بل «اعمل قاعد» فالخبرة والمخزون المعرفي كفيلان بعمل يسير ونتائج كبيرة. المتقاعدون كنز خبرة، ونور بصيرة، ومعرفة متكاملة، وذاكرة ثمينة، وللأسف كان على كل وزارة أن تضع مكاتب لمستشارين من المتقاعدين ممن تميزوا، وليدربوا المستجدين في العمل. البعد عن الناس يفتح لك القرب من رب الناس. وصفاء الوقت من كدر الآخرين يجعلك تخلو بنفسك التي نسيتها طويلاً. والتفات للأهل والأولاد والأقارب، بعد أن أخذت الوظيفة حقهم من وقتك كثيراً. للمتقاعد أن يعمل بهدوء، وبجهد بدني يسير، بخبرة ونظرة تراكمت ونضجت بنار هادئة في سنوات لذا سيكون منتجه كبيراً. عمر الإنسان الذهبي بين الأربعين إلى الستين، هذه الفترة هي سن الأشدّ والنضج والإنتاج واستواء العقل والرأي، وما بعده يجب أن يذهب أكثره للتعبد لله تعالى: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ». لنتأمل من بلغ الأشدّ مقترناً بالأربعين من عمره، يبدأ بالشكر لله ثم يتذكر من رعى نموه وحياته وهم الوالدان فيدعو لهما ثم يتذكر الإعانة من الله ليعمل ثم يدعو الله لمن ترك من ذرية ويقر باستسلامه لله ليرجع إليه مسلما له.. هذه الفترة الذهبية لعمر الإنسان يجب أن يبذر فيها خيري الدنيا والآخرة، ويقدم للآخرين الخير والمساعدة ولا يقل «كبرت» أو «هرمت» فإن وصية رسولنا صلى الله عليه وسلم:» إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها». تلك بعثٌ للهمة، ولبُعد النظر، وللتفاؤل بالمستقبل، وإن ظن الإنسان انغلاقه. أيها الموظف: ابدأ بالتقاعد قبل أن يبدأ بك بقوة نظامه! وقبل ذلك: يحسن قبل التقاعد المبكر أن يستعد الإنسان أولاً بتجربة العمل الحر، وتأسيس ما يمكن أن يستمر فيه ويتوسع به ويألفه من الأعمال، والتدرب على إدارة الأعمال المتنوعة الاستثمارية، فهي مهارة لها ميدانها، وليس كالوظيفة الرسمية تسير ولو توقفت عنها، كما لا يضرها مسيرك بجانبها! لكنك تحبط عن العمل عندما تسمع موظفا شابا صغيرا قوله: « آه متى نتقاعد»!!