لا بد أن أحداً منا لم يفته أن يسمع عن قصيدة باللغة العربية الفصحى ملأت الدنيا وشغلت الناس حين ألقاها شاعر أمام الملك، فالذي لم يسمع بها ابتداء، لم يستطع أن يتجاهل طوفان ردة فعل الناس، فاستمع لها تحت باب ماجاء في «حتى لا أكون أطرش في الزفة»! إن ما أحدثته تلك القصيدة من موجة سخرية هائلة طالت الشاعر اختلط فيها كل أنواع عدم المهنية والإنسانية وتجردت من قيم حسن الخلق واللطف والتعايش، هي أمر مثير للدهشة والعجب في آن. إن لكل إنسان الحق في إبداء رأيه، ولا يستلزم ذلك بالضرورة أن يكون خبيراً أو ضليعاً بالشعر حتى يدلي بدلوه ويقول رأيه سواء أعجبته أم لم تعجبه تلك القصيدة، طالما أنه أولاً يعرض رأيه ولا يفرضه، وثانياً يلتزم بآداب وأطر للنقد لا تطال التجريح أو الشخصنة أو السخرية. ليس من العجيب ولا الغريب أن يختلف الناس في الآراء والأذواق، لكن الأحرى بالعجب هو كيف ارتدت السخرية ثياب النقد وأصبح تداولها أمراً عادياً دون أدنى غضاضة أو حرج؟ وكيف سخّر بعض من الناس وقتاً وجهداً وموارد في سبيل تمرير تلك السخرية مقروءة أو مسموعة أو مرئية باعتبارها ظريفة؟ والأعجب من ذلك كله؛ هو كيف تجرأت شركات ربحية لسائقي الأجرة وللأثاث المنزلي وغيرها أن تستخدم جزءا من تلك السخرية لتروج لخدماتها ومنتجاتها ضاربة بكل القيم عرض الحائط ومعززة لسلوك همجي في سبيل ربح دراهم معدودة! إن القيم والمبادئ منظومة لا تتجزأ، ولا يصح الكيل بمكيالين، فعندما يرى أحدهم التنمّر الذي قوبل به الشاعر وكأنه أتى بإحدى الكبائر كأمر ظريف أو مستساغ أو حتى عادي لا يستوجب الشجب والإنكار، أتراه سيفعل المثل لو كان ابنه مكان الشاعر في إذاعته المدرسية؟ وكيف إذاً ندعي الإنصاف ونحن نرتضي لغيرنا ما لا نرضاه ولا نقبله لأنفسنا أو أحبتنا؟ إن الحدة والكلام الجارح والسخرية التي قوبلت بها تلك القصيدة، تدعونا لإعادة النظر في كوننا مجتمعا يستحق الديموقراطية وجدير بحرية التعبير عن الرأي، لعله حريٌ بنا أن نمحص الأمر بتروّ، فربما نحن لسنا جاهزين لممارسات مثل تلك، وهل من ضمانات أن حرية التعبير لو كانت متاحة فسنكون في منأى عن القدح والفجور في الخصومة؟ ويبقى السؤال محيراً؛ أين نرسم الخط الفاصل والشعرة بين النقد والتجريح؟ بين أن نقدم رأياً يفتح آفاقاً رحبة للتطوير والارتقاء وبين أن نقذف سخرية لا نلقي لها بالاً تهوي بنا أو بموهبة صاحبها سبعين خريفاً؟ أين تقف حدود التعبير عن رأينا دون أن نتخطى حدود الكياسة والأدب؟ وكيف نقدم رأياً يعكس حقيقة ما نؤمن به دون انسياق خلف الرأي السائد والشخصنة؟ خاتمة القول، هي أن السخرية ليست نقداً، والاستهزاء لا علاقة له بحرية التعبير عن الرأي، وأن الشماتة بعثرات الآخرين لا تجعلك أفضل منهم أو أطول قامة، لأنهم قد سبقوك على الأقل في نيل شرف المحاولة.