لا أدري ما الذي يمكن أن يستفيده القارئ من كتابات تمدح أشخاصاً وتضفي عليهم صفات الكمال؟ قد يعجب الفرد منا بشخصية ما ولكن ليس من الضروري أن يعبر عن إعجابه لفظيا أو كتابيا، فهناك وسائل كثيرة يمكن أن تظهر ذلك، ورغم أن الكثير من الناس ينتشون ويطربون للمديح حتى لو مُدحوا بما ليس فيهم، فإن البعض من ذوي النفوس المخلصة يفضل الشكر الذي يقدم له على انفراد، وقد يرتبك من الشكر العلني وينظر إلى من يشكره على الملأ بعين الريبة، معتبرا مدحه نفاقا ورغبة في الحصول على منفعة ما، وملزما له برد الشكر بمثله. لقد كان المديح من الموضوعات التي أثقلت تراثنا الأدبي وثقافتنا العربية، وبرز كثير من الشعراء المداحين ممن استغلوا شعرهم في التكسب وطلب المنفعة، ومع أن شعر المديح لا يرقى إلى مصاف الشعر الإنساني العظيم، إلا أن كتب الأدب روت لنا كثيرا من قصائد المدح التي أظهرت براعة أصحابها وقدراتهم الأدبية الرفيعة، وتفننهم في أساليبهم لينالوا العطاء المجزي، ومنهم من لم يتردد في إظهار سخطه واحتجاجه عندما لم يعبأ به الممدوح! وتحضرني هنا قصة وأبيات ظريفة لبشار بن برد- قد تمتع محبي الشعر- تظهر فيها موهبته الشعرية في التعبير عن غضبه، وقدرته على السخرية اللاذعة، وتبرز من ناحية أخرى رفضه المهانة، وذلك عندما مدح الخليفة المهدي ووزيره يعقوب بن داود، ولم يحفل يعقوب به، ولم يهبه شيئا، ويقال إن بشارا صاح في يعقوب وهو متجه إلى منزله : طال الثواء على رسوم المنزل فرد عليه يعقوب: فإذا تشاء أبا معاذ فارحل وتقول الرواية إن بشارا استمر ينتظر العطاء، وعندما طال انتظاره دخل على يعقوب، وأنشده أبياتا يقرعه فيها على حرمانه من العطاء في الوقت الذي يمنح غيره، وكأنه نبتة لا تحتاج لماء رغم رائحتها الفواحة: يعقوب قد ورد العفاة عشية متعرضين لسيبك المنتاب فسقيتهم وحسبتني كمونة نبتت لزارعها بغير شراب مهلا لديك فإنني ريحانة فاشمم بأنفك واسقها بذناب طال الثواء علي تنظر حاجة شمطت لديك فمن لها بخضاب وفي النهاية يحمل يعقوب المسؤولية،لأنه السبب في حرمانه من عطاء الخليفة، فهو بمنزلة الحالب من الناقة الغزيرة، وانقطاع لبنها إنما بسبب منع الحالب درها: تعطي الغزيرة درها فإذا أبت كانت ملامتها على الحلاب! لقد ارتضى الشاعر العربي القديم أن يرتزق بمدحه منصرفا عن هموم قومه وقضاياهم، وإذا كان ذلك مألوفا في الماضي فهل من اللائق في هذا الزمن أن تستمر هذه الظاهرة؟ وإذا كانت هناك شخصيات تستحق الثناء فعلا فلماذا لا يأتي المديح في سياق الإشادة بالأفكار والقيم وليس بالأشخاص؟ إنها مشكلة الشخصنة في ثقافتنا، سواء في حالات الوفاق أو الخلاف، في الحب أو الكره، في الرضا أو الغضب، فهل من علاج؟