الموضوعية تتعلق بالموضوع وليس بصاحبه، وخلافها الذاتية أو الشخصية وتتعلق بصاحب الموضوع. ولم ترد الشخصنة في المعجم، إنما هي اشتقاق حديث أو استخدام يسري على ألسنة الناس. وفي الإنجليزية: الموضوعية objective مشتقة من المفعول object، والذاتية subjective مشتقة من الفاعل subject. وهكذا فالشخصنة هي الحكم على الأفكار أو المواقف من خلال الشخص المنسوبة إليه، لا من خلال مضمون الفكرة أو طبيعة الحدث. والشخصنة تحرم الإنسان من الاستفادة من الأفكار والآراء والمواقف السديدة لمجرد خروجها من شخص مصنَّف تصنيفاً معيّناً عندنا. وفي المقابل تؤدي إلى رفع قيمة الأفكار والآراء والمواقف لمجرد صدورها عن شخص نميل إليه. ولا غرابة أن رأينا بعض من كتبوا شعراً وأرادوا له الانتشار فنسبوه إلى شاعر مشهور. وقد يتعصب شخص لحكم فقهي فينسبه إلى عالِمٍ معروف. وعكس ذلك أن يتم تهوين واحتقار بل وإدانة رأي أو حكم أو موقف لأنه صادر عمن نصنّفهم من المخالفين أو الخصوم، رغم أننا مأمورون (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ). وإذا دققنا النظر فسنجد أن جميع مظاهر وسلوكيات التعصب للرأي والعنصرية والتمييز هي أشكال مختلفة من الشخصنة. إذ يُحكم على فكرة مسبقاً بالفساد أو بالضلال، وتُصم الآذان عن سماعها، والعقل عن التفكير فيها، واللسان عن ترديدها دون أن يكون ثمة عيب فيها إلا كونها جاءت ممن لا نحبه. أو يتم الإعلاء من شأن فكرة، وتصنّف أنها خارج إطار النقد، والمخالف لها حائد عن الحق، لأنها جاءت ممن نجلّه، رغم أن المقدس في ديننا هو كتاب الله والسنة الصحيحة. وليتنا نفهم قول أسلافنا: يُعرف الرجال بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال. إن جعل الأشخاص هم محور التحليل والنقد وليس الأفكار، يؤدي إلى الابتعاد عن الإنصاف والموضوعية في المناقشة والحوار، كما يتم تغييب العقل. وقد أودت الشخصنة بإبليس إلى رفض أوامر ربه (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً)، أما فرعون فاستغرب أن تأتيه الدعوة من موسى (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً، وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)، وكفار مكة رأوا أن الرسالة كان يستحقها شخص آخر (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وبعض الغربيين اليوم يرفضون الإسلام لأنه يأتيهم من شعوب سبق استعمارها. إنه استبعاد للمنطق وغياب للعدالة والإنصاف بسبب حكم شخصي، ولو وُجدت الموضوعية التي تناقش الأفكار بعيداً عن الأشخاص، وبعيداً عن الإعجاب أو النفور، لتغيرت الأحكام. والنقد لا يكون بنّاءً إلا إذا كان موضوعياً. أما إذا دخلت فيه الشخصنة فهو هدّام. ومن جميل الأقوال: العظماء يناقشون الأفكار، والعوام يهتمون بالأشياء، وأصحاب العقول الصغيرة يناقشون الأشخاص. ومن مظاهر الشخصنة المسيطرة علينا النظر إلى بلد صنع البضائع قبل شرائها، فاستغل الغشاشون هذه العقدة فراحوا يغيّرون بلد الصنع ليضفوا على بضائعهم هالة معيّنة. كلية الهندسة، جامعة الملك عبد العزيز [email protected]