يصدف أحياناً أن تكون في مجلس به لفيف من الأصدقاء يتحدثون حول موضوع معين وكل يُدلي منهم بدلوه ثم ما يلبث هذا النقاش الذي بدأ رزيناً أن يتحول إلى صراع ديكة، فتنتابك الحيرة من تبدُل حالِهم وتحول لغة حديثهم. لقد أصبح الحوار الذي يهدف إلى الانتصار للنفس، أو تخطئة الآخر والتقليل من شأنه، أو إقناعه ببطلان معتقده هو الصفة السائدة في كثير مما نشاهده أو نسمعه من الحوارات الفكرية، ويكاد الحوار الراقي الذي يحكمه العقل والمنطق ويزينه احترام الآخر أن يذهب به شحّ النفوس وانحطاط الذوق، فها هي الفيديوهات الّتي تُوثقها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي للعديد من الشخصيات ومن مختلف الأصعدة والتوجهات تبرهن على تفاقم هذه الظاهرة التي تُبرز الخلل الذي ضرب جذور مؤسساتنا التعليمية عندما تنصّلت من الشطر الثاني من أهدافها وهو التربية وغرس القيم النبيلة في نفوس الناشئة وأهمها الاحترام بمعناه المطلق، وتخليها عن دورها في رسم ملامح لمجتمع متحضر يمتلك أعظم إرث حضاري وأخلاقي. إنّ للحوار آدابا يجب أن يتحلى بها من يسعى إليه قبل أن يجلس ضيفاً على منصة الحوار، أوّلها الإيمان بأنّ الحوار وسيلة لتوضيح رأي، والاستيضاح من الآخر عن رأيه في قضية ما بغية التقريب، وليس غايته تصويب ما يعتقد أنّه خطأ عند الآخر، كما يجب أن يكون متمكناً من براهينه، متواضعاً في عرض رأيه، محترِماً لذاته، منصتاً لغيره، رفيقاً بمحاوِره، وألا يتجاوز حدوده، ولا يتعصب لرأيه، فإن أصاب فهو من توفيق الله وإن أخطأ حمد الله الذي أظهر له الصواب. إنّ الحوار فنّ لا يجيده إلّا من سما خلقه، ونبُلت مقاصده، وصدقت مساعيه في الخير، وهو دليل على رقي المجتمع ودرجة تقدمه، لذا يجب على مؤسساتنا التعليمية أن تتبنى تدريسه وتقديمه على هيئة ورش عمل في جميع المراحل الدراسية.