سبق أن ألقيت محاضرة قبل فترة على مجموعة من الضباط العسكريين المسؤولين عن الأمن الدبلوماسي، وكانت رغبتهم في أن تكون المحاضرة عن الأمن الوطني ومعززاته ومهدداته، وكان لي تجربة سابقة في مثل هذه المحاضرات؛ لأنه سبق أن ألقيتها في أكاديمية الأمير نايف بن عبدالعزيز عدة مرات قبل سنوات، فكان مستوى الرضا لدي عالياً جداً عن الحضور ومشاركاتهم وتفاعلهم، فكانوا مثقفين رغم عملهم وانشغالهم؛ حيث تناقشنا في أمور وأبعاد متنوعة، وكان طرحهم وردودهم تبين مدى سعة اطلاعهم وعمق إدراكهم المعرفي، ولذلك وددت أن أكتب عن هذه المحاضرة لأهميتها في مثل هذه الأيام، وما نحتاجه فعلاً لتعزيز أمننا الوطني وتحصين جبهتنا الداخلية من الأخطار التي تحيط بنا من كل جهة، ونستفيد من تعليقات القراء على مثل هذه المواضيع المهمة. كانت المحاضرة على شقين «المعززات والمهددات لأمننا الوطني»، فبدأت بمقدمة عن الأمن الوطني؛ حيث إن الخوف هو عكس الأمن، فإذا كان هناك خوف انعدم الأمن، وقد ذكر الله ذلك في كتابه العزيز عندما منّ على قريش وذكرهم بما هُيئ لهم من أمن وأمان بقوله في سورة قريش «.. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»، وقد كانت مكة كما وصفها الله في كتابه «وادٍ غير ذي زرع»، إلا أن الله مكنهم من تفعيل الإيلاف بينهم وبين القبائل الضاربة على الطريق التجاري بين مكة والشام ومكة واليمن ومكة والعراق، ومعنى الإيلاف هو « الاتفاق» أو «المعاهدة» في حماية قوافل قريش من قطاع الطرق واللصوص مقابل «الإكراء» أي تحميل بضائع تلك القبائل وبيعها وإرجاع ثمنها إليهم مجاناً من قبل قريش، فأصبح لديهم طريق تجاري آمن يتوجهون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فسادت قريش ونمت تجارتها، وأصبح بعض سادات مكة من الأغنياء بسبب هذه التجارة الرابحة حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن شربوا في أكواب من ذهب وفضة. ولذلك يمثل الأمن الوطني هاجساً كبيراً لدى الدول وحكامها؛ لما له من أهمية كبيرة في تقدم الدول وتطورها ونموها؛ لذلك تسعى كل دولة إلى تحصين نفسها من أي خطر قد يهددها للحفاظ على أمنها وحدودها ومواطنيها، والأمن الوطني بمعناه هو: تأمين الدولة من الداخل وحمايتها من الأخطار الخارجية بما يكفل لمواطنيها العيش في أمن وسلام»، أما مصطلح الأمن الوطني فليس قديما جداً إنما برز بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بعد ظهور التنظيمات الجديدة والاختراعات، فبدأت الدول تحاول المحافظة على أمنها الداخلي لاستتباب الأمن والاستفادة من المواطن في عملية التنمية والتطوير، فقد كانت الدول في الماضي تعتمد اعتماداً كلياً على القوة العسكرية في تعزيز أمنها الوطني، ولذلك تجد الاهتمام بالجيوش دون سواه هو الأهم والأبرز، إلا أن هذا الدور تراجع كثيراً بسبب تداخل مصالح الدول فيما بينها. ومن ركائز الأمن الوطني يبرز لنا الأمن الفكري الذي له دور كبير في ترسيخ الانتماء والولاء للوطن وتقوية اللحمة الوطنية بين أبناء الوطن الواحد، ويعرَّف الأمن الفكري بأنه: سلامة فكر الإنسان وخلو عقله من المعتقدات والأفكار الخاطئة التي قد تؤدي به إلى الانحراف والابتعاد عن الاعتدال والوسطية في الفهم والتفكير، سواء في الأمور الدينية أو الدنيوية. وللأمن الفكري أهداف كثيرة أبرزها: غرس القيم والمبادئ الإنسانية التي تعزز روح الانتماء والولاء للوطن، كذلك تعزيز وترسيخ الفكر الوسطي المعتدل بين أبناء الوطن المتنوع فكرياً ومذهبياً، إشاعة روح المحبة والألفة بين الناس بمختلف توجهاتهم وأطيافهم، تحصين الناشئة والشباب من الأفكار الضالة والمنحرفة التي قد تؤدي بهم إلى القتل والتفجير والتفكير. أما معززات الأمن الوطني التي تحرص عليها معظم الدول فتتمثل حسب رؤية وتوجه كل دولة، فالمملكة هي مهد الرسالات ومهبط الوحي وقبلة مليار ونصف المليار مسلم، والدولة الوحيدة التي تطبق شرع الله في أحكامها، فلذلك يكون الاهتداء بهدي الله وسنة نبيه من أول معززات الأمن الوطني، أما المعزز الثاني فهو: التنشئة الصحيحة، لذلك عُد المنزل من أهم الروافد التي تساعد الدولة في أمنها الوطني من خلال التربية الصحيحة للأولاد وتكون مخرجات تلك التربية جيدة من خلال الابتعاد عن الفكر الضال والتشدد في الدين، مما قد يولد الغلو لدى الفرد فيكون بعيداً عن الوسطية والاعتدال التي أمرنا الله بها في قوله «وجعلناكم أمة وسطاً» وقال سبحانه أيضاً «ولا تغلوا في دينكم»، وتكون الأسرة أسهمت في تقديم نموذج صالح ورائع لا يخالف المجتمع في تقاليده وعاداته وأعرافه التي لا تخالف شرع الله، وبهذا يتم تحقيق الضبط والتماسك الاجتماعي.