تلجأ الدول لمشروع «قصف العقول» من أجل التأثير على من تريد لبلوغ غايات معينة. إما عن طريق الدعاية الإعلامية أو الفتاوى عن طريق تحريك بعض الشيوخ لتخدير الناس أو تحفيزهم من أجل التبشير بالجنة التي يدفعون غيرهم للذهاب إليها، أو تخويف الناس من فتنة «مدلهمة» لا يعلم إلا سماحته أخطارها المحدقة. هذا الفهم الذاتي للحياة جعلني أستحضر ذكرياتي القديمة مع القراءة والاطلاع، حيث كان من الكتب التي قرأتها منذ زمن مضى، ودونت عنه بعض الملاحظات، كتاب «قصف العقول»، وهو يتحدث عن الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي، الذي ألفه السياسي البريطاني «فيليب تايلور»، وهذا الكتاب كان فيه المؤلف يشرح أشكال وأساليب الدعاية التي اتخذتها الشعوب والجماعات والدول في الدعاية للحرب قبلها وأثناءها وبعدها منذ عصور الحضارة الإنسانية القديمة البدائية المتأخرة وحتى حرب الفوكلاند التي حصلت بين الأرجنتين وبريطانيا في أوائل الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين. هذه الدعاية للحروب التي أطلق عليها المؤلف اسم «قصف العقول» اتخذت أشكالاً عدة منها المنحوتات الحجرية وتصوير القتلى من الخصوم، وكذلك الأغاني والأناشيد والرايات والبيارق وما توصل إليه العلم في عصر الأقمار الصناعية، وكانت تدور حول بعض الرؤى السياسية التي منها تغليب إرادة المنتصر، وفن الإقناع، ومدى تأثير هذه الدعاية على المقاتلين وسير المعارك، والجمهور الداعم لهذه الحروب، وتعويم ثقافة الوهم بعدالة القضية التي تتبناها الطبقات المتنفذة في البلدان، وتسخير البقية من شرائح المجتمع من أجل خدمة الأغراض التي ينشدها أصحاب المصالح، لكنه أهمل الجانب الدعائي للحروب عند العرب والمسلمين، وهذا مؤشر جلي على عنصرية المؤلف، العضو في حزب المحافظين البريطاني، وكان المؤلف حريصاً أشد الحرص على تضخيم الذات الأوروبية عامة والبريطانية بشكل خاص، وكأن التاريخ برمته مختزل ومفصّل لجنس واحد اسمه «الرجل الأبيض» وهو الرجل الأوروبي. من يقرأ الكتاب سيجد بأنه يتحرك وفق عدة مسارات: المسار الأول، أنه يدور ضمن دائرة العلوم السياسية، والثاني أنه يخدم أغراض الدعاية التي هي حقل من حقول العلوم الإعلامية، والثالث بأنه له ارتباط بالعلوم النفسية المرتبطة أشد الارتباط بالعنصر الثاني، أما المسار الرابع فهو مسار عسكري مرتبط بالمسار السياسي خاصة أن الحرب امتداد لاستراتيجية الحرب، وذلك السياسي الناجح لن يكون عمله السياسي مجدياً ما لم تكن له قوة عسكرية على الأرض تخدم القضايا التي يسعى لتحقيقها. كان ولا يزال، ولا أدري هل سيبقى هذا الكتاب سيشكل ذات القيمة الفنية التي أستشعر أهميتها لهذا العمل الإعلامي السياسي الاجتماعي الثقافي النفسي، الذي حوى عدداً من الجوانب المعرفية القيمة التي مزجها المؤلف بشكل متكامل وهو سياسي بريطاني مخضرم واستطاع دمج كل هذه المضامين في بوتقة واحدة اسمها «الدعاية» حيث عكس لنا كيف كان الإنسان منذ أقدم العصور، كان يوظف أساليبه البدائية لخدمة غرضه المنشود من هذه الدعاية الإعلامية للحروب التي كان يشنها، وكيف كان يحرص على رسم صور الإعلام لقتلى الخصوم، وحينما يحاول الإنسان منا هذه الأيام عقد مقارنة بين ما يفعله الإنسان البدائي منذ أقدم العصور، وما يحرص عليه الإعلام العربي المرئي، المأمول منه «التحضر» وذلك حينما يسارع إلى نقل مشاهد القصف والتدمير للعرب والمسلمين، وحوّلهم لوجبة إعلامية دسمة وذلك من أجل تفتيت استشعار قتلهم ليموت هاجس المتابعين للأخبار، ومن ثمّ ليتقبلوا أكثر عدد من الضحايا، وكأن الأمر مسألة عادية، وهذا ما نجح فيه هذا التعيس المرئي أيّما نجاح.