أثبتت الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة والعالم عن قوة تأثير الإعلام في تشكيل الأحداث حول العالم لا بل والتأثير فيها وربما قيادتها بأساليب تجاوزت عملية نقل الأخبار المباشرة. هذه القدرات الإعلامية ليست غائبة عن العديد من الدول الكبيرة منها والصغيرة التي اكتشفت الدور الفاعل الذي يمكن أن يلعبه الإعلام الموجه في التأثير على الشعوب مما دفعها الى الاستثمار فيه طمعاً بتسخيره لخدمة أهداف سياستها الخارجية. من أجل ذلك ظهرت تسمية "الدبلوماسية العامة" بوصفها واحدة من أحدث مستجدات العصر في مجال السياسة الدولية, وهي تعبير يطلق على جهود الدول الرامية إلى تحقيق أهداف سياستها الخارجية من خلال التواصل المباشر مع الهيئات، الأحزاب والأفراد المؤثرين في البلدان الأخرى وذلك باستخدام وسائل الإعلام والتواصل وتوظيفها من أجل إحداث تغيير مطلوب في سياستها الخارجية. هذا النوع من الدبلوماسية يشكل اليوم أكبر وأهم النشاطات الدبلوماسية العالمية والذي اكتسب أهمية مع النمو السريع في وسائل النقل والاتصال والتواصل. فعلى سبيل المثال, وبنتيجة التوسع الكبير في مجال استخدام الأقمار الصناعية في البث التلفزيوني فهنالك ما يزيد على الألف محطة فضائية عربية منها الإخباري والفني, وأصبح التخصص من سمات العصر فأصبحت الفضائيات تختص في الرياضة والأخبار والدراما حتى وصل الأمر إلى إيجاد فضائيات متخصصة بقضايا الطبخ وما شابه ذلك. بالإضافة إلى ذلك نذكر التوسع الهائل في مجال الاتصالات والذي ليس بأقل من سابقه, حتى لا يكاد يخلو إنسان في عالمنا اليوم من هاتف نقال يحمله معه أينما حل ويوصله بأي إنسان آخر في أبعد زاوية من زوايا الأرض الواسعة, وليس ذلك فحسب فالهواتف النقالة مزودة بأجهزة تصوير يمكن أن تسجل ما يراه الإنسان من أحداث بالصوت والصورة ووضع ذلك على الشبكة العنكبوتية الممتدة حول العالم والتي جعلت منه قرية صغيرة بحق. هذا التوسع الإعلامي والتقارب العالمي زاد من قوة الترابط بين الشعوب مما أضعف أو أزال الفروق بين القضايا العالمية والمحلية, وأدى الى إضعاف الفصل بين السياستين الخارجية والداخلية للدول , ذلك أن كل شيء اليوم أصبح عالمياً لأنه يؤثر بالآخرين ويتأثر بهم. وهذه القضية بالتحديد زادت من أهمية الدبلوماسية العامة وجعلتها ليس فقط واحدة من الأنشطة الدبلوماسية ولكن من أهمها وأخطرها على الإطلاق بكونها تمنح الدول التي تمتلك القدرات في هذه المجالات الحرية الواسعة في خدمة أهدافها السياسية, وهي في نفس الوقت تجعل من الدول التي حرمت نفسها من هذه الأدوات عرضة لشتى التدخلات الخارجية التي تأتي من المحطات الفضائية والإعلام العالمي والمواقع الاليكترونية والمدونات, ولا ننسى أن نذكر الدور المهم الذي لعبته وسائل الإعلام العالمي في الترويج للحرب على العراق وترويجها لأكاذيب أسلحة الدمار الشامل, لدرجة أن البعض أطلق على تلك الحرب "حرب CNN" بسبب الدور الذي لعبته تلك المحطة العالمية المعروفة في الترويج للحرب. هذه الأمور التي اعتدنا عليها اليوم وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا لم تكن هكذا دائما وإنما تعود الى بدايات متواضعة مع تطور أجهزة الاتصال الجماهيري, حيث بدأت الدول تكتشف فوائد استخدام جهاز الراديو مثلاً في محاولة التأثير المباشر على الجماهير بالطريقة التي تخدم سياستها الخارجية في مساحات خارج حدودها. وهي لم تبدأ مع روبرت مورو الإعلامي الأمريكي الشهير الذي كان يبث من مواقع أحداث الحرب العالمية الثانية وينقل صورا حية عن القصف الألماني للندن إلى الشعب الأمريكي, والتي ساعدت في إحداث تغيير لدى عامة الأمريكان عن دور أمريكا في الحرب والانحياز باتجاه المشاركة فيها بدلاً من سياسة العزلة, ذلك أن التنافس الإعلامي بين ألمانيا وبريطانيا على التواصل مع العالم العربي في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية قد حدث قبل ذلك. فقد بدأت محطة BBC البث العربي المباشر عام 1937م وكان البث في يومه الأول لمدة ربع ساعة فقط ثم زاد ليصبح حوالي ساعة, وكانت المحطة تستضيف العديد من الدبلوماسيين العرب المتواجدين في لندن. أما بالنسبة لألمانيا فالقصة مختلفة إلى حد ما وربما أكثر إثارة, حيث تبدأ عندما وصل هتلر إلى الحكم في ألمانيا وكان من أول أعماله تعيين صديقه جوزيف غوبل وزيرا للدعاية والتنوير العام وبقي في هذا المنصب اكثر من 12 سنة حتى سقوط النازية عام 1945م. في تلك الفترة برز العالم العربي عامة والعراق خاصة بكونه احدى نقاط الصراع الألماني-البريطاني الذي اتخذ شكل حرب باردة باستخدام وسائل الدبلوماسية العامة قبل أن تقرع طبول الحرب في أوروبا. وكانت البداية عندما قام الملك غازي رحمه الله ملك العراق آنذاك والذي كان صاحب نزعة عربية قوية حيث كان يؤلمه ما آلت إليه الأحوال في فلسطين ويحمل الإنكليز مسؤولية ذلك, وهذا أدى به إلى إظهار الميل باتجاه الألمان, الذين ادعوا أنهم مع حقوق الشعب الفلسطيني. ومن أجل أن ينقل الملك أفكاره هذه إلى الشعب العراقي قام بفتح محطة إذاعة تبث من القصر الملكي بحيث تكون خارج سيطرة السلطات البريطانية, وأسند مسؤولية تلك الإذاعة إلى الإعلامي العراقي يونس بحري المعروف بمعاداته للإنكليز وقربه من الألمان. وكان يونس بحري يصدر جريدة ( العقاب) التي كانت تنشر نفس الآراء. ولمن لا يعرف يونس بحري, فهو يونس صالح خلف الجبوري من مواليد 1903 في مدينة الموصل. كان متعدد المواهب والقدرات ورحالة من الطراز الأول جاب العالم وكانت له علاقات مع الملوك والأدباء في بلدان عديدة. عمل في مهن عديدة بالإضافة إلى الإعلام والصحافة حتى يذكر أنه عمل مغنياً في الهند ومفتياً في إندونيسيا, وكان يتقن أكثر من 16 لغة قراءة وكتابة. وتعود تسميته (البحري) لأنه كان سباحا ماهرا دخل سباق عبور المانش من دون استعداد وفاز بالمرتبة الأولى. يقال انه تزوج أكثر من أربعين امرأة من مختلف البلدان وأنجب أكثر من ثمانين من الأبناء من أشهرهم الاستاذ الجامعي الدكتور لؤي يونس بحري, والفنان المقيم في باريس سعدي يونس والدكتورة منى يونس بحري الأستاذة في جامعة بغداد والأدميرال رعد يونس بحري قائد الأسطول الفلبيني . توفي رحمه الله فقيراً معدماً في بغداد عام 1979م ودفن في مقبرة الغزالية. نعود الى قصتنا، ذلك أنه وبعد أشهر من تعيين يونس بحري في إدارة محطة الإذاعة من القصر الملكي وفي عام 1939م توفي الملك غازي رحمه الله في حادث سيارة، ولكن جريدة "العقاب" ظهرت في اليوم التالي موشحة بالسواد وتحمل العنوان الرئيسي ( مقتل الملك غازي )، وفي الجريدة شرح مفصل لما أسمته الجريدة بالمؤامرة لقتل الملك غازي والتي شارك فيها الأمير عبد الإله ونوري السعيد والانكليز. ولعلمه بأن السلطات سوف تقوم بمنع الجريدة من التوزيع فقد قام يونس بحري بتوزيع الجريدة في مدينة بغداد بنفسه مستخدما دراجته النارية. حينها, أدرك يونس بحري خطورة الموقف بالنسبة إليه, فاتصل بالقنصل الألماني في بغداد ورتب معه قصة تقوم على إعلان السفارة عن مجيء وفد إعلامي ألماني إلى بغداد بحيث يقوم يونس بحري بإجراء تحقيق صحفي مع الوفد على متن الطائرة , وبالفعل ما إن حطت الطائرة في مطار بغداد حتى صعد يونس على متنها لإجراء المقابلة المزعومة, لكن الطائرة بدلاً من فتح أبوابها للوفد للهبوط أغلقت الأبواب وأقلعت ثانية وعلى متنها المواطن الألماني الجديد يونس بحري, الذي وجد جواز السفر الألماني بانتظاره على متن الطائرة حسب ترتيبات القنصلية الألمانية في بغداد. وعندما أقلعت الطائرة كانت قوات الشرطة العراقية تداهم منزل يونس بحري في بغداد للبحث عنه, لكن الأوان قد فات. حط يونس بحري الرحال في ألمانيا ليبدأ بعد ذلك تعاوناً إعلامياً مع غوبل تمثل في إنشاء محطة إذاعة ألمانية موجهة للعرب, وكانت العلاقة بين غوبل ويونس علاقة صداقة حيث كان من أقرب مقربيه وتم منحه رتبة مارشال في الجيش النازي. وكان يونس يفتتح البث في المحطة بالإعلان المعروف، ( هنا برلين حي العرب)، وعلى خلاف إذاعة BBC العربية, فإن إذاعة برلين كانت تفتح بثها بتلاوة من القرآن الكريم مما جعلها أقرب إلى الناس, ومما زاد في شعبيتها عند المستمعين هو استضافة الحاج أمين الحسيني مفتي القدس رحمه الله الذي يتمتع بشعبية كبيرة في الوطن العربي. بعد سقوط برلين على يد الحلفاء، كان يونس بحري من الاسماء المطلوبة و جاءت قصة هروبه من قبضة الحلفاء مثيرة. فقد خرج من برلين مع عدد من الأجانب قبل أن يحاصرها الروس، وحرَّف اسمه المسجل في جواز السفر الى، يوني باري جبوري، محرفا من يونس بحري الجبوري، وزعم للمحققين أنه كان معتقلا في ألمانيا وأطلعهم على أثر جرح قديم في جسمه من أثر شجار قديم، مدعياً بأنه من آثار تعذيب النازيين له، فسمحوا له بالسفر إلى باريس. وانهى بذلك فصلاً من اول فصول الدبلوماسية العامة ودورها في خدمة السياسات العالمية. * سفير العراق لدى المملكة