مرَّ العالمُ بالقرن العاشر من الألفيَّة الثانية وما زال مستهلَّ الألفيَّة الثالثة يمرُّ بما يجعلُ تاريخَ البشريَّة يسجِّل سفراً أسودَ في مسيرتها المتَّصفة فيها بأسوأ صفاتها منذُ انطلاق الإنسان بعمارة الأرض وبناء حضاراته، فظلمُ الشُّعوب الأقوى تكنولوجيّاً وعسكريّاً واضطهادُها للشُّعوب النامية واستبدادُها فيها واستنزاف مقدَّراتها الطبيعيَّة سالبةً أحقِّيَّتها في حياتها الطبيعيَّة وأمنها واستقرارها، أحقِّيَّة لا تراها إلاَّ لها؛ ولذلك فهي تخضعها لاستعمارها أو تسيِّسها لإراداتها ولنفوذها، وتحول دون حقِّها في تقرير مصيرها والتصرُّف بمواردها الطبيعيَّة، فالدول العظمى لا تحتكم علاقاتها بالشُّعوب النامية الضعيفة للمبادئ الإنسانيَّة ولا للقوانين الدوليَّة التي اصطنعتها وضمَّنتها ميثاقَ هيئة الأمم المتَّحدة وتشريعاتِها المبنيَّة ظاهريّاً لحماية الشُّعوب النامية وحقوق الإنسان فيها؛ ولذلك فهيئةُ الأمم المتَّحدة تصمتُ عن ظلم القوى العظمى المدَّعية حمايةَ مصالحها في الدول النامية. وكلَّما تقدَّمتْ الدول الأقوى بصناعاتها العسكريَّة وفي تكنولوجيا التقنيَّة وارتفعت مستوياتُ خدماتها لشعوبها فمستويات معيشتها ازداد جشعُها بمقدَّرات الشُّعوب الناميَّة وبجهود سكَّانها دون الالتفاتِ إليها كشعوب تستحقُّ الحياةَ والتنميةَ المتطلِّبتين أمناً واستقراراً، وتطبِّق الشُّعوبُ الأقوى في الشعوب النامية قاعدة فَرِّقْ تَسُدْ؛ فتزرع عملاءها وجواسيسها فيها من خونة سكَّانها وتحفزهم على بثِّ الاختلافات الأيدلوجيَّة والسياسيَّة فيما بينهم لتنتجَ صراعات أهليَّة طائفيَّة تحت شعار الفوضى الخلَّاقة لتتيحَ لها تدخُّلاتها بحجَّة حماية حقوق الإنسان ونشر الديمقراطيَّة فيها، وهي إنَّما تسعى لتسويق منتجاتها من الأسلحة والمعدَّات العسكريَّة اللازمة لإذكاء صراعاتها لتستمرَّ مصانعها تنتج فيستمرُّ تدفُّق الأموال عليها من الدول النامية للحصول على الأسلحة ساعيةً لإطالة أمد صراعاتها لتلجأ أطرافها إليها، وهذا ما يجعلها حروباً أهليَّة لا تنتهي؛ إذْ تعقبها ثاراتٌ وأحقادٌ بين سكَّانها، بل وتفتعل حروبها الأهليَّة لتجريب أسلحتها المتطوِّرة والأحدث تصنيعاً، لدرجة أنَّ صندوق النقد الدوليّ يسهم بتجارة الأسلحة وبتمويلها وبالوساطة فيها بين القوى العظمى والدول النامية. أنزل اللهُ سبحانه وتعالى في كتابه قاعدةً ربَّانيَّة تحكم علاقاتِ شعوب الأرض فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، سورة الحجرات، آية رقم 13، فالله جعلهم شعوباً ليتعارفوا، والتعارف هو أدنى علاقات البشر تاركاً لهم التَّرقِّي لأسماها من تعاون وتكافل وتكامل، خاتماً الآية الكريمة بمعيار التكريم الربَّانيِّ بينهم وهو التقوى، ومحذِّراً بأنَّه عليم خبير بطبائعهم، وأنَّه لن يدع القويَّ الفاحش الثراء يظلم الضعيف الفقير ولا أن يضطهده أو يسرقَه، فقد حرَّم سبحانه وتعالى على نفسه الظلم الجامع كلَّ ما يمارسه القويُّ على الضعيف دون وجه حقّ. وبالنَّظر لأمريكا الأقوى عسكريّاً والأفحش ثراءً في مجال علاقاتها بالشُّعوب الناميَّة، وفي ضوء اعتبارها بأنَّها من موقعها في القوَّة والقدرة باتت بمنزلة موزِّع المكاسب ومشغِّلة الآخرين كوكلاء لها، فقوانينها تنصُّ في فقراتٍ عديدة على أنَّها هي حارس العالم وقوَّته ومنقذته ومنتجة ثقافته ومن تقوده، وهي الدولة التي يجب أن تسمع لها شعوبُ الأرض دون اعتراضات ولا تساؤلات؛ لذلك فمراقبو سياساتها لم يرَوا ولم يسمعوا منها أيَّ دلالة على الحبِّ والولاء لشعوب الأرض، فهمُّها إرضاء غرورها ومصالحها وأنها الأقوى عالميّاً حتَّى وإن تخلَّت عن حلفائها، ولبقائها قويَّة مهيمنةً فهي تتدخَّل في شؤون الشُّعوب النامية وتنتهك الأعرافَ الدوليَّة مشرِّعةً قوانينها كقانون جاستا، وتاريخها في حرب العراق وقبلها أفغانستان يعكس ذلك، ومثلها وقبلها الدول الأوروبيَّة الاستعماريَّة والاتِّحاد السوفيتيُّ تكشف أنَّ هذه القوى لا ترى أحقِّيَّة الشعوب النامية في حياة طبيعيَّة وفي تنميةٍ وبأمن واستقرار لتحقيقهما. وما تسبَّبتْ فيه الدول الأقوى من صراعات واضطرابات ومآسٍ في الشُّعوب النامية المحاولةِ الحياة والتنمية بأمن واستقرار، اضطرَّ سكَّانها للهجرة والتشرُّد فاللُّجوء لدولٍ مجاورة وبعيدة بحثاً عن الأمن لهم ولنسائهم وأطفالهم وشيوخهم، وهكذا فلجأ 50% منهم في دولٍ لا تزيد ثرواتها عن 2.5% من ثروات العالم، وفي حين يبلغ سكان الدول الأقوى مرتفعة الدخل %14 فقط من مجموع سكان العالم ويمتلكون %90 من السوق العالميَّة المنتجة، فالشُّعوب النامية منخفضة الدخل تشكِّل %86 من مجموع سكَّان العالم، ولا تمتلك إلا %10 فقط من السوق العالميَّة المنتجة، والدول الفاحشة الثراء هي المهيمنة على شعوب العالم النامية المستنزفة ثرواتها والأقل في استقبال اللاجئين. وتحاول موسكو استعادة دورها السابق المتفتِّت بضربات منافستها واشنطن بالحرب الباردة وبالحروب بالوكالة من شعوبٍ نامية حرَّكتها بمؤامرات وانقلابات، وكذلك تظهر دول أخرى تتقدَّمها إسرائيل وإيران بحماية دول عظمى مساندة لها ضدَّ الشُّعوب النامية، ورحم الله أبا القاسم الشابِّي القائل قبل ظهور مصطلح الإرهاب المعاصر ناظراً لتسلُّط الشُّعوب الأقوى ممَّا يعدُّه إرهاباً: لا عَدْلَ إِلَّا إِنْ تَعَادَلَت القُوَى وَتَصَادَمَ الإرْهَابُ بِالإِرْهَابِ وستشتعلُ الحربُ الباردة بين أمريكاوروسيا حرباً ساخنة في سوريَّا أو في أوكرانيا، فبعد ارتفاع لهجة التصريحات بينهما نقلتْ روسيا منظوماتها الصاروخيَّة المتطوِّرة لقواعدها في سوريَّا، وحرَّكتْ أساطيلها نحو البحر المتوسِّط، فيما أمريكا تقلِّبُ خياراتها العسكريَّة والاستخباريَّة لضرب نظام الأسد ومدرجات طائراته غير ملتفتة لتحذيرات روسيا، ولكنَّ احتمال اندلاع الحرب الساخنة بينهما سيكون في أوكرانيا أقرب من كونها في الشرق الأوسط حيثُ تحسب أمريكا حساباتها في تأثير الحرب على ربيبتها إسرائيل فيما لو اندلعت قريباً منها، وهكذا يصدق بيت أبي القاسم الشَّابي الراحل في مثل هذا اليوم من عام 1934م على الحالة العالميَّة الراهنة.