مرحلة انفلات على كل الصعد تعم العالم. وتغير في خريطة التوجهات السياسية والاقتصادية، يشهدها عدد من دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. والأزمات الاقتصادية والاجتماعية في القارة السوداء، لا تجد نقطة ضوء، على طريق الحل. أما بالوطن العربي، فإن عددا من بلدانه تعيش أوضاعا من الفوضى والتشتت، لم تشهدها، حتى مع غزو التتار لعاصمة العباسيين. لقد أمسى الوطن العربي، ساحة للصراع، بين القوى المتنافسة، إقليميا ودوليا. وبدا أن حلم الاستقلال والتنمية، وتحقيق الازدهار، بالنسبة لشرائح كبرى في مجتمعنا العربي، صارت شأنا عصيا على التحقق، وأمست في قائمة المؤجلات، حتى إشعار آخر. والوضع على صعوبته، لا يتيح لنا فسحة التهرب من فك طلاسمه. إن تداعياته تحاصرنا من كل مكان، وتفرض علينا تقديم أجوبة تساعد على فهم حقيقة ما يجري، لعل ذلك يساعد على وضع آليات للخروج من عنق الزجاجة. وربما اقتضى وضع ذلك في سياق التحقيب التاريخي، سياق انتقال من نظام دولي إلى آخر، وما تفرضه مرحلة الانتقال التاريخي من نظام دولي إلى آخر من خصائص وملامح. النظام الدولي، لا يعني فقط وجود قوى عظمى تهيمن على صناعة القرار الأممي في العالم، بل طبيعة الأطر الناظمة للعلاقات الدولية. فقبل الحرب الكونية الأولى على سبيل المثال، كانت هناك قوة كبرى، تدير العالم، ممثلة في السلطنة العثمانية، وروسيا القيصرية، وبلدان أوروبا القديمة: بريطانيا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وإيطاليا. ولكل من هذه الدول، حضور استعماري في بلدان العالم الثالث. وكانت حصة الأسد، من نصيب هذه المنطقة، التي وقعت فريسة احتلال هذه البلدان. كان النظام القديم الذي ساد قبل الحرب الكونية الأولى، في شكله وريثا للإمبراطوريات التي سادت في العصور الوسطى، حيث القوي يفرض سطوته على الضعيف. وحيث تتمدد الإمبراطوريات وتتقلص، استنادا على حق الفتح، الذي ساد منذ القدم. وبموجب هذا الحق، فإن كل أرض تقع تحت سيرة المحتل، تصبح جزءا من ممتلكاته. حرب الخمسمائة عام، في أوروبا أدت إلى بروز اتفاقية ويستفاليا، التي أقرت للأوروبيين بحق السيادة على أراضيهم، وعدم جواز احتلال أراضي الغير وضمها بالقوة. ومن هذه الاتفاقية انبثقت فكرة السيادة، التي تبنتها عصبة الأمم بعد تأسيسها في العقد الثاني من القرن العشرين. فمع عصبة الأمم، تأسس نظام دولي جديد، ألغى حق الفتح، وأكد مفهوم السيادة، ومناهضة الاستعمار، وحق تقرير المصير. ووجدت مفاهيم جديدة، كالحماية والوصاية والانتداب، لم تكن موجودة من قبل في القاموس السياسي. لكن نتائج تلك الحرب، جعلتها تحمل توصيف الحرب التي لم تكتمل. فالأزمات الاقتصادية، والاستعار القومي، وعدم وضع مبدأ إلغاء حق الفتح قيد التنفيذ، أسهمت جميعا في إيجاد مناخات مناسبة، لحرب كونية أخرى، أكثر ضراوة. فكانت الحرب الكونية الثانية، الأكثر ضراوة وتدميرا، منذ تربع النوع الإنساني، فوق هذا الكوكب. ولم يكن مقبولا البتة، بعد اكتشاف السلاح النووي، أن يحدث تصادم مباشر بين القوى التي تملك هذا النوع من السلاح، لأن معنى ذلك فناء محتمل للجنس البشري. فكانت الحروب بالوكالة أهم معلم من معالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. كشفت التطورات الكبرى، التي حدثت في عالمنا المعاصر، منذ بداية القرن العشرين، حتى يومنا هذا أن الفهم الإغريقي للسياسة، باعتبارها مشروعا اخلاقيا، لا ينصرف في هذا الواقع. لقد تصور فلاسفة الإغريق أن أي فعل سياسي، ينبغي أن يكون نبيلا، ومحكوما بمنظومة قيمية، تمنعه من الانفلات. لكن التطورات اللاحقة أكدت دقة التعريف الشائع للسياسة، باعتبارها فن الممكن. لقد أحدث "فن الممكن"، تغييرا في وظيفتها، وجعلها مرتبطة بقانون المنفعة. لقد غدت السياسة، عملا براغماتيا وغدت البراغماتية صفة ملازمة للسياسي الناجح. فمع نشوء الإمبراطوريات والدول، وتعقد وظائف الحكم، ارتبط المفهوم السياسي، ارتباطا عضويا، بفن إدارة الدولة، وأمست مهمة العلوم السياسية، الاهتمام بسياسات الدول، وبميكانيزمات إدارة الدولة، وعلاقتها بمجتمعها، وأيضا سياساتها تجاه الخارج. والواقع تاريخيا، أن الدول تصيغ سياساتها، بناء وفقا لمجموعة من المعطيات الذاتية والموضوعية، يمارس السياسيون تنفيذ أجنداتهم، في الداخل والخارج بكل ما لديهم من قدرات وممكنات. وكل شيء، في قاموس القوة، مشروع من أجل تحقيق تلك الأجندات. فالقسر والإكراه، والتلويح بالجزرة والعصا، أدوات لا يتردد القادة السياسيون الكبار في استخدامها، متى ما مكنتهم من تنفيذ أهدافهم. وهكذا شنت الحروب، عبر التاريخ، من أجل تحقيق غايات سياسية محددة. ويؤكد الرصد التاريخي، أن الحروب، تشن في الغالب، عندما يفشل القادة السياسيون، في تحقيق أهدافهم من خلال المفاوضات. ولذلك تعتبر الحروب أعلى أشكال المفاوضات، وأكثرها سخونة، حيث يفرض الطرف الأقوى شروطه، من خلال فوهات البنادق. ذلك يعني، أن الحروب في المجمل، هي أدوات في خدمة السياسة. وذلك ما تؤكده معظم النظريات السياسية، المتعلقة بأسباب اندلاع الحرب، فرغم اختلاف النظريات وثرائها، حول تلك الأسباب، لكنها في النهاية، ورغم اختلاف مساربها، تلتقي عند السياسة كعامل رئيسي لاندلاع الحروب. قيل في تفسير أسباب الحرب، أن الدول الكبرى، تشن الحروب من أجل السيطرة على ثروات الشعوب، وبشكل خاص المواد الخام، والاستيلاء على الممرات والمعابر الاستراتيجية. وينسحب ذلك على الحروب القديمة. وقيل إنها تتم بدوافع دينية، كحال الحروب الصليبية. ولكن منظرين آخرين، أصروا أن الحروب تشن لأسباب اقتصادية، إما مدفوعة بنزوع التوسع، أو بسبب ندرة الموارد. وربط بعض المفكرين، أسباب الحرب بالأزمات الداخلية. ووفقا لهذه الرؤية، فإن الحكومات التي تتعرض لأزمات داخلية حادة تلجأ لشن حروب خارجية، من أجل تسعير المشاعر القومية، بإيجاد عدو خارجي مشترك، يجتمع حول مواجهته جميع أفراد الأمة. وميز الفلاسفة بين الحرب العدوانية والحرب العادلة. فالحرب العدوانية، هي بطبيعتها استعمارية وعنصرية وتوسعية، وتمثل عدوانا من القوي على الضعيف. أما الحرب العادلة، فتهدف للدفاع عن النفس، ورد العدوان، والانتصار للكرامة الانسانية. ويدخل في نطاقها حروب التحرير، وهناك من صنف الحروب الاستباقية، في خانة الحرب العادلة، لأنها تأتي ردا على عدوان محتمل. لكن هناك من رفض مناقشة أسباب الحروب، وفق المعايير القيمية، ورأى أن مهمة الباحث والمحلل، هي المساعدة على فهم الظروف التي تشتعل فيها الحروب، وليس اتخاذ موقف منها. لأن التفسير القيمي، يمثل موقفا، والموقف يمثل انحيازا، والانحياز يتنافى مع الحياد والطبيعة العلمية، التي ينبغي أن يتحلى بها الباحث.رأى كثير من المفكرين، أن الحروب سوف تستمر، طالما استمر النوع الانساني، ورفض آخرون هذه الفكرة، ورأوا في اندلاع الحروب دليلا على غياب العدل، وطغيان المشاعر القومية، وعدم توصل الانسانية، إلى نظام يحفظ الأمن والسلم في العالم. في حين فسر آخرون، ظاهرة الحرب، بوقوف غائية خلفها لحفظ التوازن، بين ندرة الموارد، وبين عدد السكان. وشبهوها بظاهرة الكوارث والأوبئة التي تضطلع بتثبيت هذا النوع من التوازن. لكن هذه القراءة ينقصها وعي التطورات الهائلة التي حدثت في العلوم البيولوجية، في العقود الأخيرة، وما حققه التطور البشري من طفرات كبيرة، على صعيد توفير الغذاء للبشر.في نظريات الدورة التاريخية، التي يعتبر العلامة العربي، عبدالرحمن بن خلدون، أول من وضع أسسها، هناك قراءات من النوع الحتمي للحروب، يشير بعضها إلى أن البشرية، تشهد حتما حربا كبرى كل مائة عام. لكن الفترة الزمنية هذه ليست موضع اتفاق، فهناك من ذكر أنها فد تستمر خمسمائة عام، كما حدث في القارة الأوروبية، وهناك من قال إن دورة الحرب تحدث كل مائتي عام، وهناك من قال بالمائة عام. لكن أحداث القرن العشرين، دحضت نظريات الدورة التاريخية، حيث شهد القرن حربين عالميتين مدمرتين، هما أكثر الحروب فتكا وتدميرا في التاريخ الإنساني. نجادل هنا، ومن خلال الرصد التاريخي، أنه ليس يكفي أن تكون القوة العظمي هي الأقوى اقتصاديا، بل إن الحرب شرط لازم، لتتويج هذه القوة، على رأس صناعة القرارات الأممية، وتأسيس نظام عالمي جديد. فهذا النظام يصنعه في الغالب المنتصرون، كما حدث في الحربين الكونيتين. ودليلنا على ذلك، أن الأزمات الاقتصادية الحادة قد أودت بالاتحاد السوفيتي، مساهمة بنهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، في سقوط جدار برلين، والكتلة الاشتراكية، ولاحقا الاتحاد السوفيتي. لكن لحظة تتويج الولاياتالمتحدة، كقطب عالمي أوحد، لم تتحقق إلا بعد هزيمة الجيش العراقي، في حرب الخليج الثانية، بقيادة الولاياتالمتحدة، وبزعامة الرئيس جورج بوش الأب. وكانت مرحلة استثنائية في التاريخ الإنساني، انتفى فيها قانون صراع الإرادات لكنها لم تعمر طويلا. فالعلاقات الدولية، حين تنفرد بالهيمنة عليها، قوة وحيدة تعيد حضور قانون الغابة، ويختل فيها الأمن ويسود فيها الانفلات. عودة التعددية القطبية، بعودة قيصر روسياوالصين، بقوة للمسرح الدولي، لن تكون استثناء عن القاعدة. فهذه العودة لن تكون حقيقية، ما لم تتوج بنصر عسكري حاسم، تحققه روسيا وحليفتها الصين، في ميدان أو أكثر، من ميادين الصراع الدولي. ولعل هذه القراءة تفسر لنا، أسباب الأزمة الأوكرانية، وأيضا التدخل الروسي في سوريا، تحت يافطة مكافحة الإرهاب. وفي كل الأحوال، فإن مجال الحرب هو السياسة، والعلاقة بين السياسة والحرب، هي علاقة جدل ولسوف تستمر الحروب إلى الأبد، طالما استمر صراع الإرادات، معبرة عن اختلال في توازنات القوة، واختلافات في المواقف والرؤى السياسية. ولعل ذلك ما يفتح لنا بوابات الأمل. بأن فترة الانفلات الدولي، وفقا لهذا التحليل لن تطول، وما بعدها تأتي مرحلة التوافقات بين صناع القرار الكبار. والأهم أن نكون جاهزين لها، ونهيئ لها مستلزماتها، في عالم مصدر قوته الحقيقية، الفكر والعلم والمعرفة، عالم ليس فيه مكان إلا للعلماء والمبدعين.