قبل عدة سنوات أصدرت المديرية العامة للأمن في لبنان قرارا بمنع تداول رواية عالمية مشهورة ترجمت إلى عدة لغات. لم يصدق أحد الزملاء خلال زيارته لمعرض الكتاب في بيروت بأنها منعت. قلت له بأنها تباع في الرياض لدينا في السوبر ماركت.. مع كتب الحمية والطبخ وتطوير الذات! مثل هذه المفارقة لا تدل على تقدم في السقف الرقابي لدينا ولا تأخر عند الآخر. هي تعبر فقط عن النسبية في الرقابة؛ فما يبدو ذا حساسية خاصة في مكان وزمان محدد، يبدو غير ذلك في مكان ووقت آخر. في أحيان كثيرة لا علاقة لذلك بالمستوى العام للحريات بقدر ما يصاحب بعض المنتجات الثقافية من روايات أو كتب أو أفلام.. إشكالات قانونية أو حساسية دينية أو اجتماعية خاصة بهذا المجتمع أو ذاك.. وأحيانا هواجس سياسية مبالغ فيها. في معارض دولية للكتاب.. كثيرا ما يحدث مثل هذا الجدل حول منع كتب تبدو عادية في نظر المثقف البعيد، فيتعجب من مصادرتها دون تفهم للأسباب الحقيقية. بعض الدول التي يضعف فيها الوعي القانوني تلجأ إلى خيار المنع السريع.. لأنه أكثر أمانا إدارايا وسياسيا، فكلفة منع الكتاب أقل من كلفة السماح به، وأحيانا يأتي المنع بأرباح إعلامية وسياسية كبيرة عندما تحقق رغبة فئة كبيرة في مجتمعها. لكن مثل هذه الكتب والمنتجات الثقافية التي تثير إشكالات استثنائية.. نادرة. المشكلة ليست هنا، وإنما في الرؤية العامة للإنتاج المعرفي، وكيفية تقييمه بمعايير متوازنة ومتعقلة بعيدا عن غوغائية بعض المعارك المفتعلة هنا أو هناك. من المناسب هنا طرح السؤال التالي: أيهم أشد خطرا على الفرد والمجتمع: الانغلاق أم الانفتاح الثقافي؟ للتشدد الرقابي ميزاته وعيوبه التربوية والعلمية والحضارية في المجتمع الحديث.. وللتساهل أيضا ميزاته وعيوبه في التأثير على قيم المجتمع. استعملت في السؤال هنا تعبيرات شائعة: «الانغلاق»، «الانفتاح»، الأول له معنى سلبي وغير جذاب مقارنة بالثاني، لهذا يبدو غير موضوعي. لو استعملنا مصطلحا آخر مرغوبا فيه لدى الرؤية المحافظة مثل «التحصين» بالمنع. ما يدركه أي مطلع على النظريات التربوية.. أن تحصينا للفرد والمجتمع لا يحدث فقط بالمنع، وربما يؤدي إلى ردة فعل سلبية أكثر خطورة. أحيانا يبدو خيار «التحصين» بالسماح أفضل.. وهو التعبير المرادف «للانفتاح». وبالتالي تبدو شعارات مثل «تحصين وحماية المجتمع» ليس لها أسلوب محدد، بل هي أسلوب جامد لا يتطور مع متغيرات العصر. لقد فقدنا اليوم الكثير من قدراتنا على التحكم في الممنوع والمسموح به، مع تطور التقنية، وأصبح المنع في حالات كثيرة مجرد تعبير شكلي عن موقف سياسي أو إداري فقط. لقد كان تحصين المجتمع بالمنع أكثر جدوى عندما كان يمكن فلترة جميع المحتويات الثقافية قبل أكثرمن عقد ونصف العقد. اليوم تبدو آلية التحصين بالسماح أكثر واقعية، بشرط أن يتم تطويرها وخلق تصورات أكثر عملية للاستفادة من مميزات «التحصين» بالمنع وتفعيله بوعي أكبر بالمنع الجزئي. درء المفسدة في الثقافة تختلف عن المجالات الأخرى. البعض لديه خلل بالتصورات. في الثقافة لا يمكن وضع جداول تحدد الممنوع والمسموح فيه كما في نشاطات تجارية أو سلوكيات معينة. لا تستطيع العبارات الفضفاضة والعامة في الأنظمة تأمين جهاز فلترة دقيق للأفكار والمعلومات والعبارات المسموح بها، ففي كثير من الحالات تبدو الأمور تقديرية انطباعية تعتمد على تصور وثقافة المراقب واتجاهه الفكري. هذه المهمة لا تناسب أولئك المشتغلين بالعراك الأيديولوجي والسياسي، فالمراقب عليه مسؤولية أخلاقية مزدوجة.. عدم السماح للأفكار الخطرة والمسمومة، وفي الوقت نفسه إتاحة الفرصة لتطور ثقافة المجتمع ووعيه، وهذا لن يحدث إلا بالسماح لآراء وأفكار جديدة ومختلفة. لا يفرق كثيرون بين المستويات في الرقابة، حيث يجب أن تكون متشددة في المواد الثقافية الخاصة بالأطفال والناشئة، وتقل تدريجيا كلما أصبحت هذه المادة موجهة لمستوى أعلى. ما يحدث لدينا أحيانا هو العكس؛ انشغال مبالغ فيه بالكتب النخبوية، وأصبحت في بعض مظاهرها للأسف أداءة تسويقية أكثر منها أداة تحصين. يوجد في تراثنا العلمي والأدبي والفلسفي من مختلف عصور الحضارة الإسلامية الكثير من الكتب التي أصبحت مراجع كلاسيكية في مجالاتها، وتوجد في مكتبة أي طالب علم، وتعبر عن سعة أفق علماء المسلمين بالاستفادة منها خاصة في مجالي اللغة والأدب، بالرغم من أنها لا تخلو من المجون والأخطاء العقدية. هذه الحقيقة تفرض على النخب المحافظة أن تكون أقل تطرفا في معاييرها. لكن هذه الحقيقة التاريخية في تراثنا ليست مناسبة للمثقف الهزيل في إنتاجه عندما يريد استعمالها في تسويق أعمال أدبية قائمة على الفضائح والمشاهد الساخنة فقط. فالبعض لا يفرق بين مستوى المادة المعرفية والأدبية والفكرية التي تقدم من أعلام فكرية وعلماء وفلاسفة وبين الهزال التجاري الذي يقدمه بعض مثقفي هذا الزمان. للأسف يطلق البعض عبارات تهويلية عامة عن معرض الكتاب حول بيع الكتب المنحرفة دون تفريق بين نوعين من المؤلفات. كتب خاصة بقضايا علمية وفكرية جادة وتعد مراجع في مجالها لأن أصحابها من الرموز في تاريخ المعرفة البشرية مع ما فيها من خلط وانحرافات كبرى. وبين كتب أخرى تبشيرية تروج للفكر والانحرافات بذاتها من المتطفلين على الثقافة. ولأن البعض لا يفرق بين قيمة كتاب وآخر من الناحية العلمية وأهميته فقد عانت حتى بعض الكتب الشرعية والدعوية من الهوس الرقابي من البعض عبر عملية مطاردة لسطر هنا وجملة هناك في أعمال متكلفة للتنقيب عن المخالفات الشرعية والعقدية، فبدأ التحريض على كتب فكرية معاصرة قيمة، وتفاسير للقرآن ذات أهمية تربوية علمية، بسبب الانشطار المستمر في التيارات الإسلامية. لتقييم الإنتاج العلمي والفكري والأدبي فإننا بحاجة إلى تطوير الرؤى والتصورات.. قبل تطوير مهارة اصطياد الانحرافات المتناثرة بين السطور.