من منبع الأموات هنا؛ نقف على رسائل لم تُهجر، وودائع لا تُجزع، وبحرٍ شاهدٍ يراكَ حزيناً على مقلتيكَ حين يرى دموعكَ لا تجف ولا يهدأ أنينكَ، كأن الريح تجني من ثمارها غسق الليل وآلام النهار، وكأنك تقول كم من جبالٍ جبت تشهدُ أنني شامخٌ وسط عراك الحياةِ وخضم الأهوال. هذه الحياة بكل ما أُوتيتْ من أهوالٍ وأطياف لا تجد شيئاً يسعدك سوى ذاتك التي جيء بها بعد صراعٍ طويل للوقوف مع اللحظة الأولى من احتساب عمرك الجديد. الحرية التي استقبلتك بكل أنفاسها ووجدانها لا تملك من إرادتك شيئاً سوى العزم على بصيرةٍ قوية وحادقة النظرة. حين استودعَنا الأموات؛ أرواحهم وأنفاسهم وآلامهم العاتية على حين غرة أو بعد مخاضٍ عصيب لحظة انكسار الوجود، والولوج إلى العدم الأبدي إلى غير رجعة، هو يعلم بما يدور حول وجنتيه من لحظاتٍ ودقائق لا تُنسى، وأنه على صراطٍ مستقيم إلى شيءٍ لا يفهمه الوجود ولا تعرفه الأبصار المنشغلة بتهافت الأمور. أخي، إن الحرية والحياة شيئان لا ينفصلان، بدأتا في ذاتك منذ مجيئكَ إلى هذه الدنيا، ويشاطرك في هذا؛ كل المخلوقات التي تراها ولكن ينقصها مفاتيح السعادة والبهجة والحب. فهي محدودة الأفق لا تملك من إرادتها شيئاً سوى التكيف مع قوانين الطبيعة، ولا تستطيع التعدي أو تغيير هذا أو ذاك؛ لأنك أنت السيد في هذا الوجود والمهيمن والمشرع في الأرض.{هو أنشأكم من الأرضِ واستعمركم فيها}. الحب الذي يولد مع الحياة هو نفسه المهيمن على الأنفس والأرواح، وهو سر من أسرار استعمارنا في الأرض، حب الشيء، حب الحياة، حب الذات، حب المال، حب الآخرين.. إلخ. لولا الحب لَتركتكَ والدتكَ بعد فطامكَ بعامين أو أكثر كما تفعل كثير من أمهات البهائم حين بلوغ صغيرها أشده زجرته ورمته في روضِ المهالك يصارع بقية حياته وسط دهشةٍ من الخوف والرعب. الحب يعني امتلاك الشيء والحفاظ عليه، وهو أسمى مما أقول، فالحبُ هو الجمال الحقيقي للإنسان، والروح الكامنة في خلجات أنفاسه، ولا يعمل الإنسان عملاً أراد أن يتقنه إلا بالحب، وأعلم أن لا شيء يسبق الإخلاص إلا الحب، وليس الإخلاص كالإتقان فهناك فروقٌ طفيفة، فالإتقان أمره سهل فهو بصماتٌ ولمسات أخيرة ينجزه العامل بظواهره الشكلية، أما الإخلاص ما يتركه الإنسان من أثر جميل ونفسٍ عميقة يشعر الرائي بوصول الجمال إلى صدره من دهشة ما لمسه بإحساسه. اليوم نقف خاشعين أمام عظمة الآثار القديمة التي نحتها وبناها الأموات كمدائن صالح، وأهرامات الجيزة، وأسد بابل، وغيرها من آثار تركها الأقدمون لتعبر عن وجودهم بقلوبنا وذاكرتنا، ونحن في عجب العجاب من إخلاصهم وإتقانهم لتلك الصروح المثيرة بحبٍ عظيم. وحتى أنتم يا معشر الكتاب والرسامين، أحبوا عملكم يخلدكم التاريخ بسيرةٍ عطرة. الحب مزروعٌ في القلوب بلا تأشيرة دخول أو إذنٍ مسبق.. فالحب لا يعطي إلا من ذاتهِ، ولا يأخذ إلا من ذاته والحبُ يملك ولا يملكهُ أحد؛ فالحب حسبه أنه الحب.. هي روائع قالها فيلسوف الحكمة والأدب جبران خليل جبران (1883 1931). ومن ذاتهِ ينثر الأحلام ويذهب الأحزان. لنبدأ بالحب قبل كل شيء، حتى ونحن في لقاءاتنا، في حواراتنا، في حل مشكلاتنا، في كل شيء في حياتنا نبدأ باسم الحب لتهدأ النفوس. وإن اختلفنا على شيء لنتذكر أن جوهر وجودنا هو الحب، الرابط المقدس الذي يجمعنا على خيرٍ، فهو لا يعيش وسط الأشقياء الكارهين لكل جميل؛ لأن الجمال منبعه الحب، والقبح منبته الكراهية. حتى لو أردت أن تبني أسرة صغيرة لا ترفع دعائمِها إلا بالحب؛ فالمال والجاه؛ لا يجلب السعادة ولا الود. ومن هنا تبدأ دورة الحياة، ولتكن مع الحب قبل أي وردةٍ نزرعها.