التأني كلمة يكاد يعرف دلالتها كثيرون، وباتت العبارة الشهيرة «في التأني السلامة» شعارًا لحملات التوعية المرورية، وضدها العجلة والتسرع، والتأني لا يكون على إطلاقه فالمبالغة فيه لها مضار كبيرة! جاء في لسان العرب أن المقصود بالأَناةُ والأَنَى: الحِلم والوقار، وأَنِيَ وتَأَنَّى واسْتأْنَى: تَثبَّت، ورجل آنٍ على فاعل أَي كثير الأَناة والحلم، وأَنَى أُنِيّاً فهو أَنِيٌّ: تأَخر وأَبطأَ، ويقال: اسْتأْنِ في أَمرك أَي لا تَعْجَل. والأَناة: التُّؤَدة، ويقال: لا تُؤنِ فُرْصَتَك أَي لا تؤخرها إِذا أَمْكَنَتْك، وكل شيء أَخَّرته فقد آنَيْتَه، واسْتأْنَى به أَي انتظر به؛ يقال: اسْتُؤْنيَ به حَوْلاً، ويقال: إِنَّ خَبَر فلان لَبَطيءٌ أَنِيٌّ، ومن هذا يقال: تَأَنَّى فلان يَتَأَنَّى، وهو مُتَأَنّ إِذا تَمَكَّث وتثبت وانتظر. كان لموضوع التأني في الشعر العربي حضور كبير، ومن ذلك البيتان الشهيران للقطامي، اللذان يستشهد منهما بعض بالبيت الأول، ويتجاهلون الآخر حيث يقول القطامي عمرو بن شييم: قد يدركُ المتأنِّي بعضَ حاجتِه ** وقد يكونُ مع المستعجلِ الزَّللُ وربَّما فات قومًا بعضُ أمرِهمُ ** مِن التَّأنِّي وكان الحزمُ لو عجلوا وقريبًا منه قول لشاعر آخر: لا تعجلنَّ لأمرٍ أنت طالبُه ** فقلَّما يدركُ المطلوبَ ذو العَجلِ فذو التَّأنِّي مصيبٌ في مقاصدِه ** وذو التَّعجلِ لا يخلو عن الزَّللِ أما زهير بن أبي سلمى – صاحب الحوليات – فيقول: منَّا الأناةُ وبعضُ القوم يَحسبُنا ** أنَّا بِطاءٌ وفي إبطائِنا سرعُ ويقول شاعر آخر: استأنِ تظفرْ في أمورِك كلِّها ** وإذا عزمتَ على الهوَى فتوكَّل إن للتأني فوائد كثيرة إذا ما كان في حدوده الحقيقية، فكما قالوا في المثل (ما زاد عن حده انقلب إلى ضدِّه) إذ ليس المقصود بالتأني التردد على أي حال، فالتردد قد يكون حالة ضعف أو خوف وربما حالة مرضية تحتاج علاجًا. إن البطء الشديد الذي يتصف به بعض قائدي السيارات في الطريق العام غالبًا ما يعرض الآخرين للخطر، وقد يعيق الحركة المرورية ويعطلها، وهو أمر يؤكد أن للتأني حدودًا يجب ألا يتجاوزها! أما التعجل فيفسد التأني المحمود الذي يكون من أهم أهدافه التدبر والإحاطة بجوانب الموضوع؛ من أجل الوصول إلى أفضل الخيارات الممكنة للحل. أُرسل لأبي جعفر المنصور بيت من الشعر في أهمية التدبر وعدم التعجل، وهو: إذا كنتَ ذا رأي فكنْ ذا تدبّرٍ ** فإنَّ فسادَ الرأي أن تَتَعجلا لكن إجابه المنصور أكدت أن الرأي لا بد أن يقترن بالعزيمة، وأن التردد يفسده، حيث قال: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمةٍ ** فإن فساد الرأي أن تترددا هناك نوع من البشر يبالغون في تأنيهم إلى درجة تحبط من حولهم – خاصة إذا ما كانوا في رأس هرم إداري – ربما يعاني هؤلاء من حالة نفسية يمكن تسميتها بالتأني المرضي؛ لأنهم – بسبب هذه الحالة التي يعيشونها بشكل دائم – يهدرون الوقت ويضيعون الفرص، ويعطلون العمل، ويشلون حركة المؤسسة والعاملين بها! هذا النمط من الرؤساء غالبا ما تتملكهم حالة قلق زائد، ويسيطر عليهم شك مستمر، ويعانون انعدام الثقة بمن حولهم، وتتحول كل تلك الأمور لديهم إلى حالة رهاب مفرط من اتخاذ القرار في وقته المناسب. ربما يظن هؤلاء المصابون بهذه الحالة المرضية أن التأني الذي يمارسونه كفيل بإزالة ما يعانونه من قلق يسيطر على تصرفاتهم دون وعي منهم، أو أن التسويف الذي يعمدون إليه باستمرار سيكشف لهم الشكوك المستمرة التي تغالبهم تجاه المحيطين بهم، سيكشفها لهم قبل أن يقعوا في المكائد التي يظنون أنها تدبر لهم! ليست السلامة – دائمًا – في التأني، فقد يضر بصاحبه أو بالآخرين، أو يعطل العمل، ثم إنه لا مقاييس دقيقة للتأني متفقاً عليها بين الناس، وتقديرها يختلف من شخص لآخر، فما يراه بعض تأنيًا يراه الآخرون تأخيرًا وتعطيلًا، ويرون العجلة فيه أولى. إن العجلة محمودة ولازمة في الأمور التي يكون التأني فيها مضرًا، وقد تتسبب العجلة – في أمور أخرى – بتعطيل العجلة ومنعها من الدوران، إذ لا بد أن يكون صاحب القرار قادرًا على التمييز بين ما يجب فيه التأني وما يجب فيه التعجل. وقفة: صاحب القرار بحاجة ماسة إلى التأكد من سلامة كافة الإجراءات، والحصول على المعلومات والبيانات التي تعزز القرار وتقويه؛ لإن تبعات القرار الخاطئ فادحة، فعندما يكون الهدف واضحًا ومقبولًا يكون التأني مبررًا ونافعًا، أما إذا كان التأني بلا هدف حقيقي فهو لا يعدو أن يكون تأنيًا من أجل التأني!