«ليست السنين، شعره صار أبيض من رذاذ الياسمين»، عبارة قرأتها وتوقفت عندها كثيراً، فالفرق كبير بين من ينظر للشيب باعتباره من «رذاذ» الياسمين، وبين من يراه علامة على اقتراب الموت والهرم، وبين المعنيين مساحة-باتساع المسافة- بين فن اجتراح الحياة، وبين المشاعر التي تنتاب من ينتظر الموت! رذاذ الياسمين يصيب النساء والرجال على حد سواء، لكن هناك من يصبغه أسود، وهم الذين يجيدون فن التخفي، نساء ورجالا، ومنهم من يرقب «اشتعال» الرذاذ في رأسه، يراقبه كيف يمتد ويتمدد، حتى صاروا يأنسون به ويأنس بهم، حتى يصبح جزءا أصيلا منهم، ولا يكون إخفاؤه في مجال اهتماماتهم! حين يتحول الشيب إلى رذاذ الياسمين، فهو ينحو من رمزية الوصف إلى عالمين حالمين، فالرذاذ ينقلك إلى دنيا جميلة تذكرك برائحة رذاذ أول «شتوية»، والرذاذ الذي يتجمع حول كأس ماء بارد في يوم شديد الحرارة، وهو رشة العطر التي تهبط على بدنك كما يهبط الندى في الهزيع الأخير من الليل، أما الياسمين فتلك حكاية أخرى تطول، فهو ينقلك إلى عبق الياسمين الدمشقي، فالياسمين أرخى على المدينة كثيرا من روحه ولونه وعبقه فزادها جمالا. وحينما أقول «ياسمين» ترحل الروح إلى تلك الأسواق المسقوفة المعطرة بالتاريخ والحب، ورائحة الشاي بالنعناع، والقهوة التي يفوح منها عبق الثورة في دمشق التي يحرسها جبل قاسيون بشموخه وأنفته. تلك إذاً حكاية الرذاذ، وبعض حكايات الياسمين، أما بقية الحكاية فتطول روايتها، فحتى شجيرة الياسمين لها خصوصية بين النبات، التي يعود اسمها إلى اللغتين العربية والفارسية، وتعني «هبة الله» كما الشيب، بل إنه كشجيرة أو نبتة «قنوعة» لا يحتاج الياسمين إلى كثير من العناية، سوى الماء والشمس، فقط هذا ما تحتاجه، وتعطيك مقابل هذا رائحة عطر فواحة تمتد إلى أكثر من 200 نوع من الياسمين، حتى إنها أصبحت جزءا مهما من صناعة العطر لقوة عبيرها! هذه هي شجرة الياسمين بعبارات قليلة جدا وموجزة. أما قصة الشيب، فثمة ما يقال فيها، ومن ذلك أنه لا يأتي على الأغلب إلا بعد الأربعين، حيث النضج واكتمال الرجولة، وكلما ازدادت مساحته، ازداد إحساس بعضهم بمشاعر متناقضة، ففئة تراه علامة من علامات دنو الأجل، فتشيع في النفس مشاعر الإحباط والخوف من المستقبل والزهد في كل شيء، حتى في أداء «الواجب» على مختلف معانيه وأنواعه، أما بعضهم الآخر فيراه مفتتحا لفصل جديد من فصول الحياة، حيث يأتي في مرحلة نضج التجربة واستقرار المفاهيم، فيكون سببا للتبحر في فن الحياة، لا الجلوس على قارعة الانتظار في انتظار الموت،! رذاذ الياسمين… لله دره من بيان ساحر، وتعبير مُلهم موحٍ، وليت أصحاب الشيب يشعرون أنه كذلك، لا غبارا يخنق الأنفاس ويكتم الحياة!