الفقد أشبه بجزيرة مهجورة، دمَّرها إعصار الأنانية، وعبثت بها رياح الجشع، خاوية من السكان، عائمة على مرايا الخوف، منازلها مشرعة الأبواب مخلوعة النوافذ ذات رائحة نتنة، جدرانها من الإسفنج معلق عليها صور من رغوة الذاكرة، محشوة بضحكات ساخرة وأحياناً عابسة، وجوه مشؤومة، وعيون تتَّقد بالدخان، وأيدٍ مفخخة بالخيانة، وأفواه فاغرة يسيل لعابها كنافورة نار، جزيرة يحدُّها الانتظار من جميع الجهات، مناخها بارد وطقسها ممطر، سماؤها غائمة وصباحها مصفر، أما ليلها فأسمر داكن مائل للغضب، شوارعها يتيمة ومصابيحها مطفأة، أحياؤها وحيدة وأسواقها خاوية، لا حلم يطير ولا أمل يسير، ومع ذلك الخواء تعيش كفرد في جماعات مهددة بالانقراض تمضي حياتها على أصابع الدهشة وتطفو على خشب الخمول. تغوص في الملل وتسبح على وجه الكآبة، جماعات تجمعهم الأقنعة، وتفرقهم الحقيقة، يصبغهم الخوف ويفصلهم الأمان، وأنت المفقود بينهما، الموجود مثل كوب قهوة أو منفضة سجائر أو هاتف محمول، تعرفك من خلالهم تراك تارة أحمد وتارة صلاح وبعض الأحايين سميرة الخادمة، تراقبهم مثل شاشة تلفاز أو مروحة السقف تدور لتلطف أجواء محمومة بالجدل، تضيع كولاعة السجائر وتختفي مثل مفاتيح السيارة، تبني صوتك في معاطفهم تتحرك في جيوبهم، تسقط في مناديلهم كقطرة مالحة مصيرها سلة المهملات. تتساءل كيف أصبحت شيئاً من نفايات الحياة بين الأنتيكات الصدئة والملابس المهترئة وأكياس البلاستيك وعلب المعادن؟! حيث لا شيء يبحث عني غير قطط الشوارع وكلاب الحراسة وعمال النظافة. عندما تفقد الأنا تصبح الأشياء أكثر نضجاً ووعياً، تصبح الأشياء بارزة وذات قيمة، وحدك القابل للتفاوض المعروض كسلعة على عربة خشبية يدفعها البائعون، وتقلبها أيدي المارة، تتجول دونك بين الزحام وعلى الشواطئ وفي الحدائق العامة. عندما تفقد ذاتك، تصبح الحياة مسرحية كرتونية أبطالها السنافر، وشخصياتها الأقزام، أحداثها أسطورية، وانفعالاتها بلورية، مشاعرها من الإسفلت، وحواسها من الصوف، أما مقاعدها فخزفية، ستائرها مائية، رخامها من المرجان. وبلا سبب تضحك ضحكة هستيرية، وتصفق للكرتون الواقف على خشبة عائمة فوق السراب. عندما تفقد روحك تصبح بلا جزيرة، وبلا مسرحية، وبلا خشب، ودون جماعات، ودون أفراد، ودون مشاعر، ودون إحساس، ودون وطن، تصبح دجالاً ذا عين واحدة، ترتاب منه الخريطة، دون روحك تفقد معطيات الحياة، ومستلزمات العيش، وملذات النهاية التي تليق بك أيها الإنسان.