كان الجو رطباً وساخناً في ساحة الاستراحة التي تجمع فيها الأقارب والأصدقاء لحضور مناسبة عائلية، ولم تمنعهم حرارة الجو من الاحتفال بالعريس الجديد وإنشاد الأهازيج ورقص المزمار على أنغام الدفوف الحماسية. أطلق جوال أحد الحضور نغمة وصول رسالة، توقف عن التصفيق قليلاً وفتح الرسالة ليطالع محتواها، انقبض حاجباه وتلاشت ابتسامته وهو يقرأ الرسالة، التفت إلى جواره وأطلعه على فحوى الرسالة، تكررت الرسائل وتكرر المشهد مع عدد لا بأس به من الحضور، وسرعان ما سرى تيار من التوتر الخفي بين الجميع وإن حافظوا على المشهد الاحتفالي كي لا يفسدوا بهجة العريس. دقائق وحل طعام العشاء وتحولت الموائد المنتشرة إلى ساحة أشد سخونة للحوار السياسي الصاخب، حدث انقلاب للجيش في تركيا.. تم إغلاق المطار وإعلان الأحكام العرفية.. لكن وزير الخارجية يقول إن الوضع تحت السيطرة.. القناة الرسمية تعلن حالة الطوارئ وحظر التجول في البلاد.. أردوغان يظهر عبر مكالمة هاتفية ويدعو الناس للتظاهر.. أنباء عن لجوء أردوغان لألمانيا.. أردوغان يظهر مرة أخرى ويقول إنه قادم لإسطنبول. سلسلة من الأخبار المتناقضة وحوارات بدأت في التوتر والانفعال وزاد من حدتها التباين الكبير في أسلوب وطريقة صياغة الأخبار بين وكالات الأنباء والمواقع والمحطات الإخبارية وكأن كل جهة وجدت أن هذا هو الوقت المناسب لتفصح عن سياستها وتوجهاتها الخفية فتجد ذات الصورة لمتظاهرين يحيطون بدبابة عسكرية في الشارع وقد حملت تعليقين متناقضين ففي حين يقول الأول «المواطنون الأتراك يرحبون بالجيش» تجد الآخر يقول «الشعب يحاصر الانقلابين في الشوارع». لكن رغم كل التناقضات الفجة التي حاولت وسائل الإعلام تمريرها على الناس كان وعي الناس أكبر، وسرعان ما فرضوا رأيهم الخاص وعبروا عن استهجانهم لذلك الاستخفاف عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. ومرة أخرى تثبت التقنية الحديثة أنها قادمة لتغيير العالم لا لمجرد الترفيه عن الناس، فالانقلاب الذي كان يفترض أن يكون محكماً وتم التحضير له على مدى طويل فشل، لأنه تم بطريقة تقليدية واكتفى بإغلاق وسائل الإعلام الحكومية وفاته قدرة التقنية الحديثة على إحداث التواصل المطلوب. والتقنية الحديثة كذلك هي التي أظهرت قدرتها على إظهار الرأي المستقل، فسرعان ما ظهر مغردون وأصحاب حسابات على برامج التواصل الأخرى لينقلوا الصورة مباشرة من أرض الواقع أفضل من أي مراسل ميداني لقناة مسيسة، وسرعان ما تابعهم الملايين وتناقلوا مقاطعهم وتغريداتهم ولم ينسوا في ذات الوقت أن يمطروا القنوات المسيسة بوابل من عبارات السخرية والاستياء. مرت الليلة على خير، والسهرة التي امتدت حتى ساعات الفجر أتت بأخبار طيبة لمحبي تركيا وأهلها الطيبين، وفي نفس الوقت كانت وبالاً على عمي البصائر والضمائر الذين راهنوا على انقلاب فاشي لإزاحة خصم سياسي مفترض. لقد فرحنا جميعاً لهزيمة الانقلاب، ليس حباً في أردوغان ولكن حباً في أن تبقى جذوة الأمل مشتعلة، في أن اليقين بأن الشعوب تستطيع أن تنال حريتها وتحافظ عليها وتدفع ثمنها إن لزم الأمر، في أن هناك على الأقل نموذجا واحدا لدولة ذات شعب مسلم استطاعت أن تنهض من مستنقع الفساد والتخلف والتبعية عبر تجربة ديموقراطية حرة، في الوقت الذي يحاصرنا الجميع طول الوقت بالحديث السامج عن رذائل الديموقراطية ولعناتها.. لأجل حلمنا لا لأجل أردوغان.. نحتفل بسقوط اللصوص!