لا يوجد مبرر في ثقافة أي شعب من الشعوب حول العالم، ولا تحت أي دين من الأديان السماوية التي نعرف، يعطي الحق لأي إنسان، أن يعتقد بأن مسألة التحرش بالأطفال أمر عادي، يمكن الاستخفاف به وإدراجه تحت أبواب المزح البريء. ولم أجد إلى الآن، أسوأ من هؤلاء الأفراد المحسوبين على مجتمعنا كرجال، والذين أصبحوا يتسابقون بصفاقة، على تأسيس شعبيتهم وجماهيريتهم بالمجاهرة بقلة أدبهم، ونشر ثقافة (التحرش) في فضاء الإنترنت، والاستعراض بألفاظ مشينة خارجة عن الآداب العامة، على المنصات الإلكترونية والمسارح، دون ذرة خجل من عباد الله الذين يشاهدونهم في كل مكان. لتصبح عبارة مثل «لقط الشفة» و «أسبوع اقردن فلان»، مزحة بريئة مباحة في عرفهم تتكرر في أوساط المراهقين والشباب، لأن من يرون قدوة لهم، رددوها على الملأ دون أن يتعرضوا للمحاسبة، فلماذا لا يستخدمها الشاب، طالما أصبحت أكثر النكات إضحاكاً. لذلك حين نشط فئة من الشباب أطلقوا على أنفسهم شيوخاً ودعاة، وهم ليسوا كذلك، أغرقوا جلساتهم الدعوية بألفاظ سوقية مخجلة، لتتخلل أحاديثهم، بدأت بوصف فاحش للحور العين لم نعهده من قبل، وانتهت بوصف الفرد منهم كيف «يخق» على زميله الوسيم في إيحاءات خادشة للحياء، ليصبح التحرش اللفظي مزحة، يبرر لها بنضال كل من أصاب قلبه مرض الانحلال الأخلاقي. ولن يحارب تلك الممارسات ويطهر المجتمع من الشاذين الذين يتمازحون بالرذيلة، سوى شبابنا الواعي الذي يرفض أن يشوه سمعته هؤلاء، ليفهم الجميع أن (الإيحاءات المخلة بالآداب العامة والخادشة للحياء، جريمة كبرى يعاقب عليها قانون الدولة، ولا تندرج تحت الإسقاطات الكوميدية). والمصيبة في ذلك، ليس سرعة انتشار تلك المقاطع فقط، بل اندفاع عدد من المختلين نفسياً، للدفاع عن سلوك أحدهم مؤخراً، حين ألقت شرطة الرياض القبض عليه، بعد مجاهرته بالتحرش بالأطفال في نهار رمضان، دون أن يضع أدنى احترام للشهر الفضيل، أو يحسب حساباً للعقاب أو المسائلة القانونية. ونتمنى ألاَّ تكتفي شرطة الرياض بأخذ جريمة مثل تلك كبقية الجرائم المعلوماتية، دون أن تدرجها تحت جرائم التحرش بالأطفال، بل أيضاً أن تقبض وتستدعي، كل من ظهر مسبقاً، في مقاطع مخزية للتحقيق وتحميله جزءاً من العقاب، لأن كل جريمة حين تبدأ صغيرة، تتفاقم في النهاية، فالتحرش بجميع أشكاله جريمة لا تغتفر، وهزلها جد لا يحتمل التهاون فيه أو التقليل من شأنه. وبات واضحاً الآن، أن وسائل التواصل سلاح ذو حدين، إذا كان قد أساء استخدامها بعض الصغار برعونة الشباب، أخفق أيضاً بعض الكبار من استخدامها بحكمة، وكنا قد شاهدنا كيف صورت الدراما العام الماضي قصة «شايب الديمن»، المسن الذي كشف له عبث حفيده بالصدفة، سحر وسائل التواصل، فأدمنها وأغرق الفضاء بمقاطعه المخجلة، التي أحرجت أسرته ومعارفه. ولا نقتصر المبالغة في استخدامها على الصغار والكبار فقط، بل أصبحت تمنح المسؤول الذي كان يقوم بعمله بهدوء، مساحة لتلميع نفسه، فتجد من يستهل ب «لقد أسعدني» أو «لقد أحزنني»، ويستعرض كيف تفاعل مع الناس، وقام بواجبه الذي يتقاضى عليه أجراً، وكأنه يقدم للبشرية خدمة مجانية. وأصبح المهم الآن، إن كنت شخصية مؤثرة أو ذات مركز في الدولة، قيادية كانت أو مشهورة، ويعمل تحت إدارتك أو القطاع الذي تعمل به مجموعة من الناس، أصبح عليك أن تتخذ خطوات احترازية استباقية، للتأكد قبل أن تباشر عملك وتغرد عن القيم في يومك الأول، أن تجري مسحاً على حسابات أبنائك على وسائل التواصل، وتراجعها لتتعرف عليهم عن كثب، وعلى نتاج وجودة تربيتك، فإن كنت أباً مخلصاً بمعنى الكلمة، في تأدية واجباتك نحو أبنائك، دون أن تلقيها على عاتق السائق، فحتماً ستجني ثمار تربيتك الحسنة، وربما تكون مهمتك سهلة، حين تطلب منهم المحافظة على اسمك وسمعتك في فضاء الإنترنت الفسيح دون أن يتدخلوا في عملك، حيث نشط مؤخراً أبناء لبعض المشاهير والمسؤولين ومديري الشركات، مهمتهم الأساسية محاربة من ينتقد أداء القطاع الذي يعمل به والده، والتسويق لقراراته النيرة، فيسيئون لهم معتقدين أنهم بذلك يسدون لهم صنيعاً. وضعت التقنية في هذا الزمن جميع فئات المجتمع، في اختبار جماعي للتعبير عن آرائهم وأفكارهم وأخلاقهم وتربيتهم، وتركت لكل فرد حرية تحديد خطوطه الحمراء، فمن كنا نعتقد بأنهم قدوة ومثاليون، اتضح بأنهم أفَّاقون ومهرجون، ومن كنا نعتقد بأنهم منحرفون ومشاغبون، أثبتوا أنهم مسالمون ومحترمون. وكل هذا يدفعنا للتساؤل وإعادة التفكير وتحديث مفاهيمنا، هل كان إعطاء الفرد حرية كاملة للتعبير خطأ، أم تلك الحرية كشفت مستوى البيئة وجودة التربية؟ وقبل أن أترككم لتفكروا بالإجابة .. أقول عيدكم حُب وسعادة، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وانتم بخير.