شاء الله أن يجمعني مع إنسان ثرثار؛ يمكنه الحديث ساعتين دون توقف، وكان قوي الحجة لاذع اللسان، لديه من الأسلوب ما يُشعرك أن يمكنه إقناع روسيا بفداحة خطئها حين استخدمت حق الفيتو في القضية السورية، كما يملك من الفصاحة ما إن لو خطب في الشعب الروسي لاستدر الدمع من مآقيه، ولحرَّضه على حكومة ميدفيديف واضعاً إياها بين خيارين؛ إما إسقاط الأسد أو التنحي احتراماً لحقوق الإنسان وحفاظاً على سمعة روسيا. لقد ظننت لأول وهلة أنه من الطبقة المتوسطة، وأرجو من القارئ الكريم ألا يسألني عن معناها أو ماهيتها، إذ لا أعرف عنها سوى أنها قوامُ المجتمعات الآمنة، وأنها تلك التي سلمت من مساوئ الفقر ومساوئ الغنى معاً، فهي تشبه في غيابها الدخان الذي يسبق البركان حين يكون على وشك الانفجار، والحقيقة أنني أعجز عن وصفها أو إعطاء تعريف دقيق حولها، إنما وضعت لها معياراً خاصاً بي أُدخل به بعضَ الناس وأُخرج به البعضَ الآخر، فحسب المقياس الذي أقيس به يُمكنكم اعتبار الذين يمكنهم البقاء إلى آخر الشهر دون الحاجة إلى أن يقترضوا أنهم من الطبقة المتوسطة، صحيح أن هذا المقياس لن تجدوا له أثراً في أي كتاب، لكنه على أي حال هو -من وجهة نظري- الأنسب للإنسان العادي. لا أكتمكم أنني أردت تطبيق هذا المقياس على من هم حولي، ولما سألتهم فيما إذا كانت رواتبهم تكفي إلى آخر الشهر، كانت المفاجأة أنهم جميعاً في منزلة هي أدنى من الدخول في هذه الطبقة! مع أن أكثرهم معلمون ومهندسون وضباط، فلما تذكرت الذين هم أقل دخلاً أو عاطلين عن العمل حمدت الله وطلبت من الجميع أن يحمدوا الله مثلي، ولئلا نُصاب بالإحباط أكثر أو نَقفُ ما ليس لنا به علم، قررنا أن نغير الموضوع ونتحدث في شيء آخر لا يسبب رفع الضغط ولا يؤدي إلى رفع الصوت، فالتفتَ إليَّ ذلك الإنسان وسألني بخبث: لِمَ تُغير الموضوع؟! فقلت: إن الحديث في هذا الموضوع ممل ومسبب للصداع ولا يُفضي إلى شيء، ثم إن الدولة حاولت أن تحسِّن من الأحوال المعيشية للمواطنين إلا أن الحياة كلها غلاء في غلاء، فعلى ما يبدو أن الغلاء عالمي، فلِمَ نحمِّل دولتنا فوق طاقتها، ولِمَ لا يسعنا ما وسع غيرَنا، ونرضى بما قسمه الله لنا؟! فقال: يا أخي ما هذا الهراء؟! تعتقد أن ما قلتَه هو مُفحم وفي الواقع هو تافهٌ لا يليق بمن يحسب نفسه متعلماً أن يتشدق به، أرجو أن تدع التطبيل جانباً ولا تعتقد أنك الأكثر وطنية بيننا، فنحن والله نحب وطننا أشد منك وندين بالولاء لولاة أمرنا أكثر من غيرنا ألف مرة ومع ذلك نجهر بكلمة الحق دون خوف من أحد لأننا نعد أنفسنا شُركاء في الوطن لا أُجراء فيه، اقرأ التاريخ جيداً ليُخبرك أن المطبلين والمنافقين أمثالك الذين يجعلون من الباطل حقاً والحق باطلاً، هم الذين يضرون دولهم، قلت له: هل نسيت الاثنين وعشرين قراراً إصلاحياً منذ أشهر، إن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، فقال: دعك من هذه المواعظ، وقل لي بالله عليك، هل أثَّرت تلك القرارات على حياتك؟! هل تحسنت ظروفك المعيشية؟! هل قارنت بينك وبين دول الجوار من حولك؟! كم هي نسبة التضخم، وكم هي نسبة الزيادة في الرواتب؟! هل لديك علاوات اجتماعية تتناسب مع الغلاء؟! هل لديك جمعية حماية مستهلك حقيقية؟! هل تصدق من يحاول إيهامك بأن زيادة الرواتب ترفع الأسعار؟! هل أقنعك بعدد السكان والخصوصية وما إلى ذلك من الأشياء التي لم تعد مقنعة لطالب متوسط الذكاء في المرحلة المتوسطة؟! قلت له: دعني أقل لك شيئاً: قبل أكثر من سنتين كنت في إحدى الدول العربية مع بعض الأصدقاء، ولم نكن نتوجه إلى مكان إلا والأطفال خلفنا (يشحتون) مرددين بأعلى الصوت (حكومتنا الرشيدة.. خلّتنا ع الحديدة)، فوالله لو رأيت وجوههم وما كان يشوبها من علامات البؤس والفقر والمرض والحاجة لحمَدتَ الله على ما أنت فيه ولَدعوتَ الله ألا يغير علينا، فقال: يا لك من محام فاشل، ويالسوء حظ من تدافع عنه! هل تعرف المركز المالي لبلدك؟! هل تعرف القوة الاقتصادية لوطنك؟! ثم بالله عليك أجبني: هل أنت راضٍ عن تلك الحكومة الرشيدة التي تركت أبناءها على الحديدة؟! قلت: إن ما حدث لهذه الحكومات كان بسبب البطانة الفاسدة؛ فاستأذن كل الجالسين وانصرفوا!