حسناً إنها الإجازة.. إنه كذلك وقت معرض الكتاب، ذلك المزيج المثير من الراحة والرغبة في اقتناء ومطالعة الكتب، لا بأس إذن أن نبتعد عن السياسة والقضايا الجادة ونتحدث عن كتاب جديد.. كتاب خفيف ومسلٍّ لكاتبة لم تسمع بها من قبل. كاتبة لم يسبق لها أن كتبت أي كتاب ناجح، وأمضت ستة أشهر تخط مخطوطة روايتها هذه وهي مفلسة تماماً وتقترض النقود من والدها كي تدبر نفقات يومها، ثم فجأة وكما في الروايات العاطفية تتصدر روايتها قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في أمريكا وبريطانيا لأكثر من عشرين أسبوعاً متواصلة. فجأة أصبحت البريطانية النحيلة المفلسة إحدى أكثر الشخصيات الإنجليزية شهرة، وأصبحت تمضي يومها في حفلات التوقيع وإجراء المقابلات مثل نجوم السينما والمغنين، فما الذي كتبته «باولا هوكينز» في «فتاة القطار» لتحقق كل هذه الضجة؟ تستدرجك الرواية منذ السطور الأولى بأسلوب الراوي البطل؛ حيث تتحدث بطلة الرواية عن نفسها مباشرة، ذلك الأسلوب الحميم في الحكي دائماً ما ينجح في كسب ود القارئ سريعاً ويجعله يتعاطف مع البطل ويتغاضى عن أي تقصير أو خلل في السرد، لكن الرواية لا تكتفي بأسلوب الراوي البطل وحده بل تلجأ لرواة متعددين، أو بالأحرى راويات متعددات تحكي كل واحدة منهن جزءاً من القصة من وجهة نظرها، ثلاث نسوة تتقاطع حياتهن ومصائرهن في الحي السكني الذي يقطنَّ فيه عن قرب، تبدأ القصة ب «راتشل» راكبة القطار اليومي بين لندن وبلدتها الصغيرة في الضواحي، المعذبة بهجر زوجها لها وبإدمانها الكحول، راتشل رغم كل ذلك تملك هواية تأمل المنازل التي يمر بها القطار، وتبدأ مع التعود اليومي في ملاحظة عادات إحدى الساكنات في منزل مطل على سكة القطار، تمنحها اسماً خيالياً وتراقب جلوسها الصباحي في الحديقة، تبدأ في التعرف على زوجها ونمط حياتها من اللقطات الصغيرة التي تلتقطها عيناها للمنزل كل صباح، تلاحظ كذلك المنزل المجاور الذي كانت تسكن فيه هي وزوجها قبل أن ينفصلا، وأصبحت تسكنه امرأة أخرى، وتتساءل في كل يوم ما الذي يفعلانه الآن يا ترى؟ تتصاعد الأحداث بوتيرة سريعة بعد ذلك، تختفي الساكنة ذات الاسم الخيالي التي تراقبها راتشل كل يوم، ويصبح خبر اختفائها حديث الساعة، تعتقد راتشل أنها تعرف عنها معلومات قد تفيد الشرطة، لكنها تتورط دون أن تدري في مشكلات معقدة ولا تصدق الشرطة شهادتها بسبب إدمانها على الشراب، تنتقل دفة الحديث في الرواية إلى «ميجان» سيدة الحديقة التي ستختفي في ظروف غامضة فيما بعد، نعرف أنها على علاقة آثمة بشخص غريب، وأن الشبهات ستدور لاحقاً حول معالجها النفسي الوسيم. تلتقط «آنا» خيط الحكي، آنا هي الزوجة الجديدة التي حلت مكان راتشل، وبالطبع هي لا تطيقها، وتشي للشرطة بأنها رأتها تتسكع في الحي ليلة اختفاء ميجان. تتلاعب الكاتبة ببراعة بخطوط السرد، وتجعلك تتعاطف مع كل شخصية على حدة رغم تناقضاتها، لكنك تظل مندمجاً مع الأحداث حتى نهايتها الكاشفة التي تفاجئك بنهاية غير متوقعة على الإطلاق عندما تتداخل الأحداث بشكل معقد. رغم أنها رواية حركية ومثيرة إلا أنها لا تخلو من براعة وعمق في وصف الشخصيات، خصوصاً شخصية راتشل وأزمتها مع الإدمان والوحدة، ومحاولاتها المتكررة للإقلاع عنه والانتكاسات التي تلاحقها رغماً عنها. إن كان مازال في إجازتك متسع من الوقت فإنني أرشح لك هذه الرواية لتقضي معها ساعات من المتعة المجانية قبل أن تعود منهكاً لدوامة العمل والدراسة.. وكل معرض كتاب وأنتم بخير.