في ختام رواية (البحث عن وليد مسعود) لجبرا ابراهيم جبرا يظهر جواد حسني الذي امضى وقتا طويلا ومرهقا في جمع مصادر كثيرة عن (وليد مسعود) البطل الرئيس في الرواية الذي يختفي فجأة وفي ظروف غامضة بهدف الاعداد لكتاب عنه، وهو يقول: هأنا اليوم قد جمعت اوراقي وهيأت ملاحظاتي، وسأبدأ جادا بدراستي، ترى هل سأبلغ نتيجة قطعية بشأن وليد؟ هل ثمة نتيجة قطعية في اي حدث في الحياة دع عنك حياة انسان كاملة؟ علي ان اغربل الحقائق والمعطيات علي ان اعزل عنها التضليلات والتخرصات والاوهام، علي ان ابلغ نهاية ليس فيها الا اقل ما يمكن من التناقض. لكنني حرصا على مسؤولية الباحث لن افعل ذلك حتى التخرصات والاوهام، حول رجل مالها اهميتها: والا فلماذا اختلقت؟ ومن اين جاءت؟ هل الوقائع دائما لا مادية ومحسوسة ومعقلنة؟ اليس ثمة في بعض الناس قوة لا تعللها هذه الوقائع لانها فيض ينابيع لا يحددها تشريع او فعل او مكان القرائن لا تنسجم دائما، والتناقض قد يظهر في ادق الاجزاء.. وهل وليد الا حاصل حياته وحياة المحيطين به، حاصل زمانه الخاص وزماننا العام في وقت واحد؟ واي زمان كان كلاهما زمانه وزماننا. يلاحظ ان جواد حسني يحاول ان يشرح الطريقة التي سيتبعها في تركيب تلك المادة التي تجمعت لديه حول وليد مسعود وهي تقوم بكاملها على عرض الوثائق والمذكرات والمرويات وظروفها واصحابها وكل الخلفيات المتصلة بها وفي مقدمة ذلك الشخصيات التي اتصلت بوليد مسعود طوال حياته. فعلا انها مادة غنية ومتنوعة ويحق لجواد حسني ان يعمق الوهم وهو يتساءل عن الاسلوب الافضل الذي يمكن ان يتبعه في التأليف لكي يركب الصورة الحقيقية كما يراها هو واولئك الذين كانوا على صلة بمادة كتابه عن وليد مسعود. يظهر جواد حسني مباشرة اثر اختفاء وليد مسعود ويتشكل متن الرواية من بحثه المباشر وغير المباشر في كل ما يتصل بشخصية عرفها واعجب بها وتنتهي الرواية وهو يفكر في الطريقة المناسبة لتنسيق كل ذلك، والحق فان بحث جواد حسني له صلة مباشرة بالبحث (في) وليد مسعود اكثر من البحث (عنه) ومع ان السؤال عن مصير الاحتمالات الخاصة بذلك ظل احد الشواغل المهمة للجميع لكن كل ما تجمع لدى جواد حسني انما يدور حول فكرة مركزية واحدة وهي: من هذا الرجل؟ ومن المؤكد ان واقعة الاختفاء الغامضة كانت سببا مضافا للتعمق في معرفة تلك الشخصية المتنوعة الابعاد، على ان امر الحديث عن وليد مسعود كان فرصة استثمرتها الشخصيات للحديث عن نفسها، فاصبح هو النافذة التي من خلالها تم ترتيب السرد بحيث يتنازعه وليد مسعود والشخصيات على حد سواء ومع ان وليد مسعود هو مركز التبئير السردي، الا الشخصيات المتصلة به فقد نجحت في الكشف عن حياتها ورغباتها ومواقفها وآرائها وبذلك اندرجت في (تاريخ) وليد مسعود او هو اندرج في (تاريخها) وهو امر كان جواد حسني اشار بوضوح اليه بقوله: (بعد ان يقول الاشخاص ما يقولونه، بعد أن يبرزوا عن تصميم او غير تصميم ما يبرزونه ويخفون عن تصميم او غير تصميم ما يخفونه، يبقى لنا ان نتساءل: عمن هم في الحقيقة يتحدثون؟ عن رجل شغل في وقت عواطفهم واذهانهم ام عن انفسهم، عن اوهامهم واحباطاتهم واشكالات حياتهم؟ هل هم المرآة وهو الوجه الذي يطل من اعماقها ام انه هو المرآة ووجوههم تتصاعد من اعماقها، ربما هم انفسهم لا يعرفونها؟) حقا ينبغي تعميق البحث في كل ذلك، اكان وليد مسعود هو الوجه الذي يتمرأى في مرايا عشرات الشخصيات المحيطة به ام كانوا هم يظهرون في مرآته فتتصاعد وجوههم من اعماقها؟ من الوجه؟ ومن المرآة. يعتمد جواد حسني على مادة سرابية ويجهد نفسه في تركيب حكاية وليد مسعود منها، فهو يسقط في متاهة اغريقية تلتف طرقاتها وتتقاطع ممراتها ولا يستطيع ان يكمل الرواية التي تشكل موضوع عمله كراوية وباحث وشأنه شأن (انطوان روكنتان) في رواية "الغثيان" لسارتر الذي يفني اجمل لحظات عمره في اعداد بحث عن حياة احد السفراء البروسيين في البلاط الفرنسي فان الشك يداهمه في جدوى العمل الذي يقوم به واهميته, وكما ان الموسيقى الزنجية اوقدت نار الشكوك لدى (روكنتان) في معنى عمله وقيمته, فان موشحا اندلسيا بصوت فيروز يجعل جواد حسني يتساءل عن النتيجة التي سيفضي اليها بحث تتشعب موارده وتتداخل عن رجل كان ثم مضى كما تقول مريم الصفار, وفيما يظهر في مطلع الرواية بمظهر الشخصية التوفيقية القادرة على منع التناقضات من الاصطدام, بل حتى في دمج التناقضات دون اذى لاحد, او على الاقل للاخرين فانه يظل كمن يعيش خوف الحيرة ولذتها في آن واحد, فهو يرغب في إظهار قدرته الفائقة على اختراق الطبقات الصلبة المتراكمة من الوثائق حول الشخصية التي يكتب عنها: وليد مسعود لم اخض في بحر الاوراق التي تملأ مكتبي بهديرها الصامت. من الغابة الى البحر! السفر في كليهما كالسفر داخل المرايا, مثير ومليء بالشراك, ولئن كنت لاكثرمن سنة حملت معي الغابة, فانني الان احمل البحر ايضا. لا انام وانا مرهق في ساعة متأخرة, وهالة تحذرني من التعود على حبوب النوم, غير أنها لا تعلم أن سعيي في العودة بالمركبات الى اولياتها، ومضاهاه الجزء بالجزء، وتحديد الفجوات، والتفتيش عن الضائعات التي قد تملأها, وكشف الثنايا المتواشجة بدلائلها الشحيحة الظاهرة, والنفاذ اخيرا الى تلك المنطقة السحيقة المحكمة السد في الداخل, حيث تفعل الدوافع دؤوبة كما يفعل النمل دؤوبا في خلاياه, هذه كلها قد باتت ادماني الخفي الذي هو لذتي الحقيقية,. والذي أعجز عن التواصل به مع احد, كلما دخلت مكتبتي بمفردي, واغلقت بابها علي دون عائلتي, دون اصدقائي, دون الناس كلهم, يتوحد الكون في غرفة صغيرة, مكتظة اكتظاظ الغابة, مائجة موج البحر, واتوحد انا فيه, فاتقد وانقذف واتهاوى في فضاءات مدومة كقطعة من الشمس انتشرت عنها, وتطوحت في فضاءات كون مجهول راعب, رائع, ولا استطيع ان افصح عن شيء من ذلك, الا بعبارة عاجزة هنا, وعبارة اعجز هناك. تبدو العلاقة بين الراوي - الباحث والمادة السردية التي توافرت لديه, علاقة ذات طابع خاص, اصبحت تلك العلاقة قضية خاصة بالراوي نفسه, لانه بدا يشعر انه يغطس في خضم بحر هائج, يخيفه ولكنه يغريه, وبمقدار استغراقه فيه, فان تشعباته تكاد تضلله, فكانه يدور في حلقة مغلقة, في تلك المتاهة التي شقها وليد مسعود, وادخل جواد حسني بها, فهل كان وليد مسعود يخطط لذلك, وهو يتعهد جواد حسني برعايته منذ البداية ليجعله قبل ان يكون استاذا جامعيا متخصصا بعلم الاجتماع مريدا له؟ ثم ما ان يكمل دراسته الا وتزداد علاقته به ترابطا, كما يقول: بعد حصولي على الدكتوراه توثقت بالعلاقة فيما بيننا اكثر مما مضى, فتكشفت لي تفاصيل في حياته لا يتحدث عنها الا في ساعات من الاسترسال مع اقرب الناس اليه, ووجدتني بعد قليل انخرط في مجتمعه, ادخلني فيه وليد وكانه يريد ان اكون مؤرخا له، وهو يعلم انه هو نفسه في الاصل غريب عنه. ادراج الراوي - الباحث في مجتمع وليد مسعود يمكنه من استكشاف العلاقات التي تربط افراد ذلك المجتمع,. فوليد مسعود يعيش وسط نخبة من المثقفين والاكاديميين والاثرياء والفنانين والادباء توافرت لجواد حسني مادة ثرية يشتغل عليها جمعا وتصنيفا وتنقية ليعيد تركيب صورة وليد مسعود المشهمة في مرايا الآخرين, لكن تلك الصورة لم ولن تظهر ابدا, لان الرواية اهتمت بتلك الصورة التي تكونت وبانت اطرفها في تلك المرايا في الماضي, والذي حصل ان كل شخصية - مرآة كانت بوساطة روايتها الخاصة تريد ان تظهر برفقة وليد مسعود من قعر تلك المرآة, فالشخصيات وهي تنهمك في روايتها، كانت مشغولة بوضعيتها الخاصة، فضلا عن وضعية وليد نفسه ثمة تدافع لا يخفى في الاستثمار بالاهتمام بين من يروي ومن يروي عنه وحوله, ويتيح الاطار العام لعلاقة الراوي - الباحث بالمادة الحكائية التي ينخرط في جمعها وتنظيمها للشخصيات الاخرى ان تروي ايضا, وقد اضفى تعدد الرواة اهمية بالغة على بناء الرواية, فتعدد مستويات السرد، واختلاف المنظورات والحرية في اختيار لحظة البداية ولحظة النهاية, وعمليات الدمج المستمرة للمروريات في سياق يهدف الى اضاءة الجوانب الغامضة من شخصية وليد مسعود, كل ذلك اغنى النص, وغذاه بحيوية وتموج كبيرين, ذلك ان انتهاك النسق التقليدي في البناء وفر امكانية غير محدودة لعرض سلسلة من الرؤى والمواقف التي تؤدي وظيفتين: اولاهما مواقف خاصة بالشخصيات نفسها, وثانيتهما مواقف خاصة بوليد مسعود, واشتباك هاتين الوظيفتين وتداخلهما جعل الجميع يتمرأون في مراياهم ومرايا غيرهم في الوقت نسه فتبادل الادوار وتعدد الرواة فضح العالم السري بكل تنوعاته وخباياه واسراره لوليد مسعود، على الرغم من انه لم يفلح في تحديد مصيره، لان غاية السرد الاساسية كما اشرنا هي البحث فيه وليس عنه. وهذا الامر هو الذي جعل العلاقات السردية تهدف الى اضاءة دواخل الشخصيات ونوع روابطها والمدارات التي تدور بها حول المركز الذي يستقطبها وهو وليد مسعود نفسه الذي ما ان اختفى الا وخرجت الشخصيات عن مداراتها وسقطت في هوة لا نهائية. ينتهي جواد حسني الى الاقرار بانه ازاء عالم مملوء بالتناقضات وان مهمته هي تصفية المواد المبعثرة والمتشابكة التي بحوزته عن وليد مسعود والتي يمكن تصنيفها الى عدة اقسام وهي: 1 اوراق وليد مسعود وكتاباته وذكرياته ووثائقه، وهي مادة شديدة الاهمية تروى غالبا من فيما يخص الذكريات من وجهة نظر وليد نفسه، وتكشف منظوره الذاتي لنفسه وللعالم الذي يعيش فيه، ومن بين هذه الوثائق يظهر التسجيل الصوتي له باعتباره آخر ما انجزه وهو يفجر قضايا كثيرة ويلمح الى اسرار غامضة وهو حديث مكثف غير مترابط بسبب الانتقالات المفاجئة بين الاحداث دون مراعاة للترتيب الزمني، ويغطي باشاراته ورموزه حياة وليد منذ الطفولة الاولى حتى اللحظة الاخيرة التي قام بتسجيل صوته فيها على الشريط. 2 وثائق يعثر عليها جواد حسني او معلومات يتوصل اليها او ذكريات تربطه بوليد مسعود او رسائل ومذكرات الشخصيات التي تتصل به مثل مقاطع من احاديث صحافية ومذكرات مريم الصفار ونصوص كتبها هو عن علاقات وليد بغيره منها (المزيج المر) وغير ذلك. 3 منح الفرصة لمجموعة كبيرة من الشخصيات للادلاء بصورة مباشرة او غير مباشرة باعترافاتها، وعلاقاتها بوليد مسعود، وذلك من خلال اختيار زاوية النظر الخاصة بها بحيث تنتقل مهمة الرواية اليها فيغيب تماما جواد حسني الذي يظهر احيانا بوصفه شخصية ضمن الشخصيات الاخرى. وهذا القسم ينتزع له موقعا في الاهمية لانه يضيء الاسرار المطمورة لوليد ولتلك الشخصيات على حد سواء فحينما تظهر شخصية فانما لتكشف عن سر ما او تصوغ موقفا، او تحلل قضية. وتكشف المرويات النسائية التي تقدمها: مريم الصفار ووصال رؤوف وجنان الثامر ورباح كمال وسوسن عبدالهادي وغيرهن عن ضروب من العلاقات بينهن ووليد. فيما تكشف المرويات الرجالية التي تتصل بجواد حسني وعامر عبدالحميد وابراهيم الحاج نوفل وطارق رؤوف وكاظم اسماعيل وعيسى الناصر ومروان وليد مسعود وغيرهم عن جوانب متعددة من شخصية وليد مسعود ووليد طفلا وليد زاهدا، وليد فدائيا، وليد كاتبا، وليد رجل اعمال، وليجد مفكرا.. الخ، والذي يلاحظ هو ان الرؤى والمنظورات تكشف عن اصحابها، فميول طارق رؤوف النفسية تجعله ينظر الى سلوك وليد من زاوية التحليل النفسي، وميول كل من جواد حسني وكاظم اسماعيل الاجتماعية تجعلهما يركزان الاهتمام على الجانب الاجتماعي في شخصية وليد وبخاصة في سياق تحليل كتبه. ان تعدد المنظورات واختلافاتها يظهر وليد مسعود متعددا تحت مجهر التحليل من جميع جوانبه فهي في الوقت الذي تكشف فيه شخصية وليد فانها كانت تستكشف ذاتها. وصورة وليد تتشكل دائما عبر نسيج معقد التركيب تمثله رؤى الشخصيات ومواقفها الفكرية. فلا تظهر شفافيته وحكايته الذاتية السيرية الا وهي مندمجة في سياقات كثيرة ومتشابكة مرتبطة بالظروف التاريخية التي عاش فيها، ثم التواشج متعدد الابعاد الذي يحكم علاقته بالاخرين والاخريات حقا ان وليد مسعود والشخصيات المحيطة به تتبادل الادوار السردية فمرة يكون هو المرآة التي يجد المتلقي فيها شخصيات متزاحمة تريد الظهور بنزواتها ونزقها واطماعها وتطلعاتها وحساسيتها وشهواتها واسرارها ومرة اخرى تنضد الشخصيات كمرايا متعددة الابعاد تكشف للمتلقي خفايا وليد مسعود وسيرته وافكاره. وهكذا يكون وليد راوية بنفسه لما يحدث له ولغيره فتنبثق حكايته الذاتية عبر منظوره الشخصي وبوساطة الاسلوب المباشر لكنه سرعان ما يتوارى، ويتيح للآخرين ان يرووا بأنفسهم، ومن زوايا نظر مختلفة مع وقع لهم وله صلة به. والتناوب في ممارسة الادوار السردية يجعل الطرفين يتشكلان من خلال رؤى الآخر. وبعد ان يتم كل ذلك يظهر جواد حسني ليصوغ منه تلك المادة الحكائية المادة التي يزعم ان وليد مسعود هو مركزها لان كل الشخصيات والعناصر تنشد وتنجذب اليه، فوليد مسعود هو موضوع بحث جواد حسني. *من ورقة قدمت في ندوة الرواية العربية