إن مولد شاعر عند العرب فرحة تستحق الاحتفال، لِمَ لا؟! وهو مَنْ سيخلِّد ويذيع صيت ومجد قبيلته على ألسنة الرواة، فتهابها القبائل، وتحسب لمسِّ جنابها ألف حساب! فضلاً عن حذرها من هجائه لها، فهو ذاكرة أمجادها ومآثرها ووقائعها، فكم من قبيلة أبادها بيت، ورفع قدرها آخر، هذا الحطيئة مدح قبيلة أنف الناقة، قليلة الشأن فأعلاها: قد نُصبت له الأسواق، وتبارى الشعراء على إجادته بغية أن يتناقل الناس أشعارهم؛ حتى عمر رضي الله عنه، يعده المعلم لفضائل الأخلاق، والحكمة، ومعرفة الأنساب، وهو مرجع ثقة للأحداث التاريخية، إذ يقصها بصيغة وصفية ذات عدسة عالية الصفاء، ترجمتها العين المبصرة لصور ذهنية، رسمتها قصائدهم، كما أثبت المؤرخون والباحثون مطابقتها الواقع، فحادثة الفيل رواها الشعر قبل ذكرها في القرآن، قال عبدالمطلب: كما أنه يتفرد بتوثيق المعلومة، فلولاه ما عرفنا أن أول مَنْ كسا الكعبة تبع: فالشعر سجلهم الدال على أنفسهم وصفاتهم ومعارفهم وثقافاتهم، التي اكتسبوها من رحلاتهم، وتنقلاتهم حتى قصص الأنبياء أوردوها قبل القرآن. كما أن الشعر مرآة معتقداتهم: وقد أمدَّنا بالعمر الحقيقي للشخوص والأحداث: وقال زهير: تبقَّى أن نسأل: هل كان الشاعر يتعمد إثراء ذاكرة السامع الوثائقية؟ حتماً لا، هو يريد وصف الحدث والشعور من خلال دلائل محيطة، ليمنح قصيدته مزيداً من قوة التأثير والتعبير معاً، فالشاعر يؤرِّخ للجيل القادم الحدث من حيث زمنه وأبطاله، ومدى علاقتهم بالمكان والشخوص، ويمنحنا الهوية الحقيقية لعصره، والعرف السائد، والعقيدة المعتنقة رغماً عن أنف التغيير الديموغرافي المجحف الذي تسببه الحروب والهجرة.