رحم الله شهداء حريق مستشفى جازان وشفى المصابين وعوضهم خيرا. راقبت أغلب الآراء المتعلقة بذلك الحدث الجسيم والمؤلم التي غلب عليها العاطفة وهذا مفهوم ومبرر. وبعضها انساق وراء المرايا المشتتة كالفساد بصفته عاملاً مستقلاً، وكإعلان معالي وزير الصحة مسؤوليته عن الحادثة – وهذا يحمد للوزير -، وسلاسل أبواب الطوارئ كإشكال ظاهر في فكر السلامة المؤسسي. كوارث مستشفياتنا تحديدا هي نتيجة أخيرة لمسار طويل أصيل عميق متصل يمس مساحات ما زلنا نهرب من مواجهتها إما لعدم جرأتنا على كشفها أو لجهلنا بها، والاحتمال الأول أقرب. الخلل في تقديم الخدمة الطبية المهنية بنيوي في ظاهره وباطنه. سيكون مؤسفا – وقد يعده البعض جلداً للذات – القول إننا لم نتقن بعد (استهلاك) الخدمة الصحية وتقديمها بطريقة صحيحة فكيف والظن يسافر بعيدا نحو صناعة هذه الخدمة بل وتصديرها؟ دعونا نستعرض بعض الظواهر الإدارية والخدمية الطبية في بيئتنا المحلية التي يمكن أن تحدث تصوراً نربطه بتلك الحوادث المؤسفة وتكرارها. من الملاحظ أن المؤسسات الطبية المتفوقة في البلد وفق وصفها الوظيفي تتميز بالاستقلال عن تأثير ثقافة المجتمع عليها على العكس من مستشفياتنا العامة والمركزية التي أضحت مسرحا للثقافة الشعبية تديرها وتكيفها وفق رغباتها لا وفق معايير صارمة لا تقبل التدخل المجتمعي. لا يمكن لوم الشعبي المعشش في عقل مقدم الخدمة وعقل المستفيد منها عندما مكن لنفسه وسط بيئة يفترض بها الصرامة العلمية والمعيارية، بل يقع اللوم على القاعدة المؤسسية المتكئة على نظام توظيف وتأهيل ورقابة مترهل غير منسجم مع الغاية المهنية. فصل المجتمع وثقافته الخاطئة عن بيئة العمل مطلب حتمي وإلا فإن سلاسل الأبواب ستظل شاهدا على هروب الموظفين وتدخين المرافقين وسرقة الأجهزة وعلى تناقض سافر بين الأمن والسلامة في المستشفى. أمر آخر وهو تلك المسافة الشاسعة بين التعميم والموظف أو بين النظرية والتطبيق. يدرك المسؤول المنظر الأمر فيصيغه خطابا يسر القارئين لينتهي ب (إن الموظف المطلوب غير موجود أو غير فعال يرجى عدم التعميم مرة أخرى)!، بمعنى آخر أن آلية العمل المطلوبة (غير محروسة) ينتهكها كل واحد صغر أم كبر. إن حراسة المهنية واجب الوقت المفقود؛ لأن الجدية في تطبيقها تعني نتائج لا نبدو قادرين على تحمل تبعاتها وآلامها لتظل الخواطر في مأمن إلى حين. عندما ينطلق مدير المستشفى في تفكيره من ضغط الواقع وسد الثغرات (والعمل بمن حضر) لغرض إرضاء زائف لمراجع أو مسؤول أعلى فإن التبعات كارثة. عندما يضخ في مستشفياتنا بجيل غير مؤهل علميا بشكل كافٍ وغير متقن للأخلاق المهنية ويترك دون رقابة أو تدريب في أمان وظيفي مدى الحياة فالنتيجة كارثة. عندما نشيطن الأطباء أو نجعلهم ملائكة العمل والقيادة فإننا في الحالتين نضر بالواقع وتضمر فئات أخرى أهملت لسنين والمآل كارثة. عندما تخفض المالية عقود التشغيل والصيانة والحراسة وتترك بلا رقابة محاسبية ميدانية فالمحصلة كارثة. عندما يكون لدينا إعلام (جاهل) بأبرز أدبيات العمل الطبي ويصدر وعيا خاطئا يحرض به المجتمع ويشحن عاطفته سلبا ضد مؤسساته الطبية دون بعد حقوقي فالقادم كارثة. عندما يكون المكون الإداري والفني في المستشفى امتدادا للوعي الشعبي دون فرز، وعندما يأتي الموظف صباحا مهموما بأجندته الخاصة في خدمة (ومن يعز عليه) لا بأجندة مؤسسته فالواقع على شفا كارثة. دعونا نتنازل قليلا عن كبرياء يعتمل في تكويننا وعن نرجسية تجوب آفاق وعينا ولنعترف أننا مازلنا غير قادرين على الانسجام الجمعي مع ثقافة (العلم) ومقتضيات تلك الثقافة في الأداء والإنجاز، وهذا الفشل ليس أصيلا لا نملك تجاوزه بل إن الدلائل تشير عكس ذلك عندما يجد الناس بيئة صحيحة؛ لذا فإن القلة المدركة للأمر يمكنها تحييد عناصر الإخفاق هذه ليدخل الأفراد جنة الإتقان والإبداع بالسلاسل. على وزارة الصحة -وهي الواعية لكل هذه السلبيات- صناعة بيئة عمل بنظام يضفي على مؤسساتها شخصية القطاع الخاص الناجح في حق موظفيها قبل الاستعجال في خصخصة مرضاها.