من المؤسف أن تجد عند كثير من الناس والنخبة من بينهم تفكيرا نمطيا عند طرح موضوع العمل الطبي التطوعي، ففريق يحصر هذا العمل في زيارات ميدانية يقوم بها مهنيون متطوعون إلى القرى والهجر للكشف على الناس هناك وتثقيفهم، وفريق يتساءل بغرابة عن مثل هذا العمل في دولة غنية ضمن نظامها علاج المواطنين، وفريق ثالث يربطه بالكوارث والأزمات. هذه الاستجابة من قبل الفريقين تعكس خللا في زاوية الرؤية مع قصور في الإحاطة بتفاصيل الواقع وما يحتدم فيه من إشكالات. لقد نص النظام الصحي في السعودية على أن تكون الذراع الخيرية ثالث ثلاثة مع القطاعين الحكومي والخاص لتوفير الخدمة الصحية للمواطنين، ومن الملاحظ أن الحراك الإداري والتشريعي وصداه الإعلامي مؤخرا يركز على الخدمة الحكومية والتأمين والقطاع الخاص دون وجود صورة واضحة لعمل طبي تطوعي مؤسسي هو كما أراه -واجب الوقت- من حيث البدء بتأسيس رؤية واضحة تستشرف المستقبل تزداد الحاجة إليها مع هذه الوفرة وتبعاتها التوسعية في تقديم الخدمة، فكما هو معلوم فإن أي نظام صحي مهما بلغت جودته سواء كان بالنظام الحالي أو التأمين فإنه لا يستطيع الإحاطة بجميع فئات المرضى بطريقة تضمن رعاية شاملة ومتكاملة عضوية ونفسية وتأهيلية ومن المحتوم حدوث ما يسمى "الأضرار الأجنبية" للنظام الصحي وعادة ما تكون الفئة المتضررة من الطبقة الوسطى أو الفقيرة وهنا يأتي دور العمل التطوعي المؤسسي الممول لذاته وفق فكر استثماري طويل الأمد لسد الثغرات وجبر الخلل. أصبحت الأمراض في مجتمعنا تسلك مسلك الشيوع والتضاعف والإزمان وأضحت تبعاتها تلاحق المريض في بيته وعمله ونمط حياته وهي بذلك كله تفوق قدرة الحكومة على توفير متطلباتها التي تضمن حياة مستقرة للمريض. وفي جانب آخر، فإنه لو تتبعنا مسار مريض ما منذ حضوره للمنشأة الصحية وحتى تقديم الخدمة سنجد في هذا المسار احتياجا لا يمكن تحقيقه من قبل الخدمة المجانية مثل تحليل معين أو دواء خاص أو جهاز محدد، وحتى تأخذ البيروقراطية وقتها لتوفيره فإن تضرر المريض/ المواطن لن ينقذه سوى جيبه الخاص والسؤال ماذا لو كان الجيب فارغا؟! وهناك فئة المقيمين وما يتعرضون له عند مرضهم من مواقف لا يليق حدوثها، وعلى الرغم من نظام التأمين عند تجديد الإقامة إلا أن الشواهد تفيد بأن ورقة التأمين تعطى لغرض تجديد الإقامة لتصبح بعدها صورية لا تقدم ولا تؤخر ولهذا آثار تضغط على المستشفيات الحكومية في الحالات الطارئة. ومن دواعي وصور العمل الطبي التطوعي مرافقة المرضى في حياتهم خارج بيئة المستشفيات وعمل حاضنات اجتماعية للفئات ذات الأمراض المتجانسة والمزمنة وأصحاب الإعاقات كنتاج الحوادث والجلطات وما أكثرهم في مجتمعنا وتقديم دعم اجتماعي ونفسي واقتصادي لهم وقد سبقنا الغرب كثيرا في هذا الاتجاه ويمكن الإفادة من تلك التجارب والبناء عليها. أثناء كتابة هذا المقال قرأت في الصحف المحلية خبرا عن مستشفى العيون في جدة حيث قام بإجراء 120 عملية عيون في عطلة نهاية الأسبوع تطوعيا من قبل الطاقم لتقليل قوائم الانتظار، وهذا تماما ما نحتاج إليه في هذه المرحلة، أن تقوم المؤسسات الطبية من حكومية وخاصة بإشاعة مثل هذه الأعمال لتؤسس لما بعد. وكذلك هذا الدور منوط بالجمعيات الخيرية في المناطق خاصة الطرفية منها بفتح ذراع طبية في مجال عملها يتعاون وينسق مع المستشفيات لخدمة المرضى الفقراء والمحتاجين لتكوين خبرات وتصور واقعي يستنقذ هذه الجمعيات من عملها المعتاد. إن الجمعيات التطوعية الطبية الموجودة في مجتمعنا لا تكفي الحاجة مطلقا ونحتاج لمضاعفتها برؤى حديثة متسقة مع تطورات العمل التطوعي المعاصر. قالت المؤشرات في أحداث سابقة إن مجتمعنا -خاصة عنصر الشباب- مولع بالأعمال التطوعية فلو تم هذا وفق آليات مؤسسية فإن الآثار الأمنية والاقتصادية والاجتماعية الإيجابية ستكون عظيمة.