يشهد الواقع المعاصر عربياً وإسلامياً على وجه العموم، وبنحو متفاوت، تحولات متسارعة بينها: الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي. ويلازم هذا الشأن دور تتصاعد وتيرة خطابه حدّة وتوتراً، ولا سيما في مداه النخبوي، وهذا يتزامن مع مرافقة لبعض ضروب العنف الذي يتفاوت في النوع والشدة من بلد إلى آخر؛ الأمر الذي يهدد السلم الاجتماعي في بعض المواقع، ويقضي عليه في الأخرى. ولعل الراصد الإعلامي يكشف عن جزء فقط من آثار الشقاق والفتن بين الناس، وهذا في الوقت الذي كان يُعبّر عنه بأنه بات يُخشى تأثيره المدمر للنسيج الاجتماعي، فإن الحال تأزّم كارثياً ودراماتيكياً ليمدّ العدوى الأليمة إلى بلدان مجاورة، وفي هذا خطر يحدق بالأرض والإنسان. ولئن كانت الأسباب التي أدّت إلى ذلك كثيرة ومتراكمة، والبواعث التي أفضت إليها متعددة ومتفاقمة، والعوامل التي ساعدت في توسعها معقّدة؛ فإنّ من الظواهر الغريبة واقعاً التي تلفت نظر الراصد: أنّ ثمّة دوراً رئيساً لبعض النخب؛ إذ إنهم يأتون ضمن أبرز من أسهم بل بادر بالإسهام في إذكاء نار الفتن وتأجيج أوراها، وسعى في تفتيت المجتمعات المتحابّة، وهي الحالة الطبيعية؛ إذ إنه وكما هو معروف أن عوامل التحفيز والاستثارة السلبية تتسبب في حالة انتقال ومغادرة لحالة الاستقرار نحو حالة التفاصل والاحتراب الأهلي، لتبرز حالة التدخلات وتنتقل حالة الاستقرار الغالب إلى حالة الحروب الأهلية بالوكالة كما يعبر المصطلح عن مثل هذه الحالات. ويتوجه الحديث هنا عن أهم محاور غياب حالة العقلانية وتحولها إلى ما يمكن أن يوصف بأنه متزامنة العمى الثقافي الذي بتنا نعيش خطابه فيما يكتب أعلامه، وعبر ما يلقيه خطباؤه أو يصرّح به أوتاده. إنه الخطاب: الكلمة التي لا طيب فيها، وتتعارض مع الدعوة القرآنية الحكيمة: «وقولوا للنّاس حُسْناً»، والتعبير القرآني هنا صريح لمطلق الناس، ولكن البليّة أن هناك من يتوسل عبر دوره النخبوي الثقافي أو الديني، وقد يستخدم موقعه الرسمي في إرساء حالة الخطاب الذي يفارق الضفاف الحسنة، ويغرد في فضاءات تسممها اللاإنسانية الفاتكة، وتسودها الخطابات المشحونة بالعنف والتعصب والتناكر والتدابر، بدلاً من التحاور والتوحد والتضامن والتحابُب، والأمثلة على ذلك كثيرة، ويكفي أن نطالع بعض مواد الصحف أو نشاهد بعض البرامج الحوارية الصاخبة، لنكتشف ما فيها من عبث وضرب بأولويات القيم الأخلاقية؛ فتتحول المجتمعات إلى فئات وجماعات تعميها التحيّزات ويحجب عن إدراكها روح التعصب لفكر الفئة ومنطق الجماعة، خصوصاً حينما تتوفر مقدمات فكرية تعزز من حالة خطابات التحيّز، ومحاولة الانتصار للفئة من خلال تكريس منطق أنه لا حقّ سوى ما عليه الفئة، ولا صواب إلا الذي عليه الجماعة! إن الخطاب الإيجابي في أوسع مدياته يعبر عنه القرآن الكريم بالكلمة الطيبة، «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»، وليس مجال للفذلكة بأن الكلمة الطيبة تجمع ولا تفرّق، في سعي حثيث، ودأب ملحوظ، وهذا ما تدعو إليه النصوص من الكتاب والسنّة. إن الدور شبه الغائب للنخب الإيجابية الكلمة يترك المجال لمن لا يهمّه سلم المجتمعات ولا تضامنها، والأدهى حين يتسيد الخطاب السلبي المتحيّز من خلال مَن هم في مواقع المسؤولية، ويكون معتركهم الرئيس هو الخطاب اللامسؤول. إنّ المتربصين بالأمة كثيرون، ولا مجال للرهان على أيّ الطريقين أسلم؛ طريق الوفاق والصلاح والخير، أم طريق الشقاق والخلاف والشر. وخطاب الكلمة الطيبة هو الضمانة والأمان، فربّ كلمة قالت لصاحبها دعني. نسأل الله أن يعصمنا جميعاً من الخطأ والزلل، إنه على كلّ شيء قدير.