لم يعد مقبولاً استمرار الوضع في فلسطين على ما هو عليه من انقسام داخلي قاد القضية المركزية للأمة إلى الاهتمامات الثانوية بالنسبة للعرب والعبث بها و«التفرج» على مخرجات أزماتها بالنسبة للمجتمع الدولي. ففجأة تفجَّرت الهبة الشعبية الفلسطينية بعيد ارتكاب المستوطنين الصهاينة عمليتي حرق منزلين في نابلس راح ضحيتهما عائلة الدوابشة وكان أولهم الطفل علي ثم والداه وتعرض أخوه أحمد لحروق خطيرة، لتبدأ الهبة في الانتشار في مختلف مناطق فلسطين بما فيها أراضي الثمانية والأربعين، حيث أخذ الشباب الفلسطيني على عاتقه زمام المبادرة بعد أن يئس من استمرار الخلاف الداخلي بين حركتي فتح وحماس وتكريس حكومتين بحكم الأمر الواقع، واحدة في قطاع غزة والأخرى في رام الله. لكن الشباب الفلسطيني لم يعر اهتماماً كبيراً لتفاصيل موازين القوى بين الفصيلين، إنما باشر بجسده الأعزل رفضه الاحتلال وسياسة الاستيطان وتدنيس المقدسات، فراح يتظاهر ويعتصم بعد أن وصلت سياسة الاحتلال إلى مراحل متقدمة من عملية خنق الشعب الفلسطيني بأكمله، بما فيه السلطة الوطنية التي جاءت بعد توقيع اتفاقية أوسلو ودخول القيادة الفلسطينية ومئات الكوادر الأراضي المحتلة، لتقع في شرك الاحتلال الذي بدأ في تصفية القيادات والكوادر العائدة أو تحويلهم إلى أسرى في سجونه، وذلك بالتوازي مع تنشيط عملية الاستيطان ومضاعفتها خصوصاً في القدس، حيث زادت من عشرات آلاف إلى مئات آلاف المستوطنين الذين تبني لهم حكومتهم الوحدات الاستيطانية على أراضي الفلسطينيين بعد مصادرتها وحرق المزارع وهدم المنازل على ساكنيها وتشديد الحصار الاقتصادي على الشعب الفلسطيني بما فيه حجز أموال السلطة الفلسطينية المستحقة، وتحول الاقتصاد الفلسطيني إلى تابع للاقتصاد الصهيوني في كل مفاصله، حيث تتحكم سلطات الاحتلال في مصادر المياه وتمنع على الفلسطينيين تدفقها لأراضيهم مما أصاب القطاع الزراعي في مقتل قاد لتهميش قطاع الزراعة وتراجعه في الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني، فضلاً عن سيطرة الكيان على التجارة الخارجية الفلسطينية وكذلك حركة العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل الخط الأخضر. وقاد خنق الاقتصاد الفلسطيني إلى بطالة تتراوح نسبها بين 30 % في الضفة الغربية، و60 % في قطاع غزة، ما يعني أن غالبية الشعب الفلسطيني يقع عند مستوى الفقر أو تحته، وبالتالي لم يعد له من أسباب الحياة الحرة الكريمة إلا النزر اليسير، فتفجر غضباً وهبة شعبية فاجأت الاحتلال. لقد أصاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس كبد الحقيقة حين قال أمام الأممالمتحدة في دورتها الأخيرة قبل أيام «إن محاربة الإرهاب تبدأ من حل القضية الفلسطينية»، وكذلك عندما حمَّل الاحتلال المسؤولية الكاملة عما يجري من قتل في الشوارع بحق الفلسطينيين. فهذا الاحتلال يعتبر الفريد من نوعه في التاريخ الحديث، قدم نماذج متوحشة في عملية قلب الديموغرافيا بإغراق فلسطين بالمستوطنين ومصادرة الأراضي واقتلاع الأشجار وتهويد المدن العربية خصوصاً القدس؛ لقطع الطريق على مسألة الدولتين التي جرى الحديث عنها في أوسلو. لكن هذا القول لم ينصت إليه صناع القرار الدولي والحلفاء الأقرب للكيان، بل كانوا يمارسون نظرية «اتقاء شر اليهود» ولوبياتهم المنتشرة في العواصم الكبرى، فلم يتذكروا الاعتراف بالدولة الفلسطينية إنما تسابقوا لتقديم جوائز ترضية للكيان ليصمت على الاتفاق حول الملف النووي الإيراني. وهذا سلوك ليس بجديد، بل يمتد إلى ما قبل تشكل الدولة العبرية، عندما صدر وعد بلفور عام 1917. في ظل كل هذه المعطيات، هل تحتاج حركتا فتح وحماس إلى دلائل جديدة لكي تُنهِيَا الانقسام الداخلي وتتحول الحكومتان إلى حكومة وحدة وطنية فلسطينية تنجز المهام المعلقة منذ عدة سنوات وأولها مواجهة الاحتلال بعقلية فلسطينية وليس بأجندات فصائلية لها أبعاد خارجية؟. فالشباب الذي انتفض على واقعه لن ينتظر كثيراً، فلم يبقَ له سوى ذرة كرامة يحافظ عليها بعد أن أخذت سياسة التجويع والحصار وطرها في الجسد الفلسطيني. إن هؤلاء الشباب يقدمون على الموت بحثاً عن الحياة الحرة الكريمة المفتقدة في أرض المعراج. هم لم يتحملوا كل هذا الضنك وفوقه تدنيس المستوطنين المسجد الأقصى ومحاولة فرض التقسيم الزماني لتبدأ عملية احتلال المكان المبارك الذي عرج منه رسول الأمة للسماء. إن قيادة وطنية موحدة للهبة الشعبية من شأنها أن تحافظ على هذه الهبة وتحويلها إلى انتفاضة ثالثة وحمايتها من عبث العابثين ومن الطعنات المحتملة التي قد تأتيها في الظهر. كما من شأنها أن تعيد وهج قضية الأمة لواجهة الاهتمام العربي والعالمي بعد أن توارت خلف حروب الطوائف والاقتتالات الداخلية في عديد من الدول العربية، بما يخدم مشروع الكيان بتجسيده الدولة اليهودية على الأرض وطرد الفلسطينيين من أراضي الثمانية والأربعين في عملية ترانسفير تزداد احتمالاتها في ظل الصمت المقيت والتواطؤ من عدة اتجاهات.