الطرف الأول هو بلدية القطيف. الطرف الثاني هو الشاعر الملا علي الرمضان. القضية مخالفة بناء صغيرة. لكنّ الأمر تضخّم على نحو غير معقول وتحوّل إلى إجراءات معقّدة انتهت إلى سَجن الشاعر الذي لم يصمت، بل وظّف موهبته ليُبارز البلدية ومجلسها البلدي ويُقارعهما بالشعر، ويرفع شكاواه إلى أعلى سلطة في البلاد مُدافعاً عمّا يراه حقه..! هذا ما حدث قبل 65 سنة؛ حين استفزَّت البلدية شاعرية الرمضان استفزازاً عالياً، وألهمته سلسلة قصائد في مسايرة معاملة حكومية لأكثر من عامين. كانت البلدية تُطبِّق النظام، في حين كان الرمضان يشرّح الجهاز الحكوميّ تشريحاً، ويضعه تحت مجهر النقد منطلقاً من قضيته الخاصة. بمقاييس اليوم لا يمكن لمخالفة بناء اعتيادية أن تقود صاحبها إلى السجن. ولكنّ الأمر كان مختلفاً قبل 65 عاماً. وطبقاً لروايات متعدّدة، أهمّها رواية نجل الشاعر نفسه، عبدالجليل، فإن القضية بدأت ببناء الملا الرمضان دورة مياه في بيته. لكنّ الموضوع أثار حفيظة أحد جيرانه، فشكاه عند البلدية التي تأكّدت من أن الملا ليس لديه ترخيص بناء ساري المفعول. وعلى ذلك استُدعيَ الشاعر/ المخالف إلى البلدية. وهُنا وقعت الواقعة. فالشاعر كان يرى أنه تصرّف داخل ملكه، في حين ترى البلدية أن ذلك لا بدّ أن يتم بترخيص ساري المفعول منها. ولا قناعة لدى أيّ من الطرفين بسلامة رأي الآخر. وبعد سلسلة إجراءات؛ أحيل الشاعر المخالف إلى السجن..! كان الملا علي الرمضان واحداً من الشخصيات الوقورة في بلدة الكويكب، ومعلِّم «كُتّاب» تخرج على يديه عديدٌ من جيل ما بعد النفط، وخطّاطاً له مكانته في حواضر القطيف. ودخوله السجن لم يكن هيّناً على ذاتيته الشاعرة الحساسة وتقديره لقيمته الاجتماعية.. ومنذ البداية عرف أن في الأمر وشاية جارٍ أحمق.. فوجّه لومه إلى البلدية لأنها «الأجهل» في قبولها السعي السيّئ: قبلتِ السعايةَ من أحمقٍ ومَن يُطِعِ الأحمقَ الأجهلُ أتى يدّعي ضرراً حادثاً وأنّى..؟ وهلْ ضررٌ يحصلُ..؟ أأُحجَرُ في الحبس يا مسلمون بغير قضاءٍ لنا يفصلُ..؟ الحكاية الأولى يرويها الرمضان في منظومة قوامها 122 بيتاً. وفيها يُدافع عن نفسه بأن لديه ترخيصاً من البلدية مضى عليه شهران. وأنّه مظلومٌ في سجنه يوماً وليلة بلا حكم قضائي. ويسرد بالتفصيل استدعاءه إلى البلدية بواسطة جنديّ، وتحويله إلى مقر الإمارة «الدرويشية». ولم تسر المعاملة على النحو الذي أراده الشاعر؛ فرفع شكواهُ إلى أمير المنطقة الشرقية شخصياً، وقتها، الأمير سعود بن عبدالله بن جلوي الذي أنصفه: جزى الله خيراً سموَّ الأمير «سعوداً» هو المقصدُ الأكملُ ولا زلتَ باباً لعبدالعزيز رحيباً بهِ يُفتَحُ المُقفَلُ أحاشيك تغضى وأنت الأبيُّ حِمى الجار، إذْ أمرُك الفَيصلُ تركت القصة أثرها السيّئ في نفس الشاعر الحساس. لم يهن عليه وهو الرجل الوقور أن يمرّ بما مرّ به دون أن يتوجّع ويغضب، ويتحوّل إلى ناقم ناقدٍ للجهاز الذي آذاه.. وحين راحت البلدية تمارس عملها وتنفذ مشاريعها؛ جنّد نفسه لنقدها شعراً: بلديةٌ لا تختشي من عارِ نُصبَ العُيونِ يُرى بغير ستارِ كم نشتكي منها تناقضَ فعلها فبذاك فاعتبروا أولي الأبصارِ كم تدّعين تعمّرين شوارعاً ومسالكاً للعابر السيّارِ لو كنتِ صادقةَ الدعاية حرةً ما ظلّ منهدماً هناك جدارِي..! وفي موضع آخر أعاد صياغة المنظومة واحتجّ على البلدية بأنها صمتت عن مخالفةٍ تشبه المخالفة التي لاحقته بها: لو كنتِ صادقةَ الدعاية برّةً ما كنتِ غافلة عن الخرّاري و «الخرّاري» اسم مواطن من سكان القطيف بنى دورة مياه وارتكب مخالفة بناء ومخالفة صحية وسكتت عنه البلدية. المجلس البلدي بعدما يئس الشاعر الرمضان من البلدية؛ علّق آماله على المجلس البلديّ. ولكن الخيبة كانت نصيبه أيضاً، فسخط على الجميع، وقال: فذي البلديةُ لا بُوركَتْ وضلّ المديرُ وخاب النّفَرْ وراح يفصّل رأيه فيهم تفصيلاً: وإن وعدوك نفوا وعدهم وإن أوعدوكَ وفوا بالضررْ فأقوالهم ضدّ أفعالهم وسيئةُ الكذْب إحدى الكِبَرْ وكم قد شكونا وملّ اليراعُ وجفّ المدادُ وساد الكدَرْ وبما أن لكلّ حربٍ نهاية؛ فقد انتهت حرب الملا علي الرمضان وبلدية القطيف أخيراً.. انتهتْ نهاية سعيدة، ولصالح الشاعر الذي قرّر أن يُلقي سلاح شعره: اليوم ألقينا السلاحا من بعد ما أدمى جراحا وقف اليراعُ وكم لهُ في الحرب أوسعْنا مراحا شمخ المشاغب أنفُهُ فرأى لنا صعباً كفاحا ما ضره لو أنّهُ من أجلنا خَفَض الجناحا لو كان قدّرنا لما كنا له، أبداً، شحاحا وثّق الملا علي الرمضان قصته مع البلدية نظماً في 8 نصوص مجموع أبياتها 261 بيتاً. أطول نص قوامه 122 بيتاً، وأقصر نص في 9 أبيات. وكلها موجودة في ديوانه «وحي الشعور» المنشور سنة 1379ه 1959م في العراق. وبصرف النظر عن محتوى النصوص النفسي ومستوياته الفنية؛ فإنها جميعها تُشير إلى بدايات تطبيق الأنظمة البلدية وما صاحبها من صعوبات لدى جهاز البلديات من جهة، ولدى الناس من جهة أخرى. بمنطق الخمسينيات؛ كان الملا الرمضان يتصرّف في ملكه الخاص، في بيته. ولا وجاهة لتدخّل أيّ أحد في الموضوع. وهذا المنطق هو الذي كان سائداً إلى ما قبل عقود قليلة. وطبيعيٌّ أن يُؤسس تضارب منطق النظام ومنطق الملكية حزازة بين جهاز البلديات وبين الناس. الملا الرمضان دافع عن حقه الشخصي، والبلدية دافعت عن حقّ النظام. والمواءمة بين الحق ليست سهلة على مسؤولي البلدية الذين كانوا حديثي عهد بالإدارة. يُعامِل دارسو الأدب في المنطقة الشرقية الملا علي الرمضان بوصفه واحداً من الشعراء الكلاسيكيين المهمّين في النصف الثاني من القرن الهجري الماضي. وُلد في قرية اسمها «الكويكب»، ودخل الكُتّاب وأنهى دراسة العلوم الأولية التقليدية في النحو واللغة والحساب والفقه والخط. وقبل وصول التعليم الحكومي إلى القطيف؛ افتتح مدرسة «كُتّاب» له في قرية «الشريعة». ومثلما برع في التعليم التقليدي؛ برع في الخطّ، ومارس الوِراقة في نسخ الكتب قبل انتشار الطباعة. وكان، رحمه الله، مقصد الوجهاء لتحرير وثائقهم المهمة، كالعقود والوكالات. أما الشعر فقد مارسه ونشر ديوان «وحي الشعور» في العراق عام 1379، في 143 صفحة. ثم جمع عبدالله السلمان شعره غير المنشور وضمّه إلى ديوانه المطبوع عام 1417ه في 400 صفحة. وله كشكول ما زال مخطوطاً ومحفوظاً في حوزة ورثته. ويضمّ الكشكول اختياراتٍ كثيرة من مقروءات الرمضان في أمّهات الكتب في التاريخ والأدب. ويشهد الكشكول ببراعة الملا الرّمضان في الخط، الذي يُشبه الطباعة الحجرية الأنيقة.