لأن ابن عمّي «سعد» كان أكبر منّي بقرابة 10 سنوات، فقد حصل على تأديب ب «خيزرانة» فقط. أما أنا؛ فقد كنتُ طفلاً، لذلك؛ اكتفى الضابط ب «تفلة» في وجهي. ضحك الجمهور، وصفَّق، حين انتهى سعد الفرج من سرد القصة في سياق إجابة له عن سؤال من الجمهور قدّمه الزميل عبدالله الدحيلان. القصة حدثت عام 1956، عند دروازة «الشامية» من سور مدينة الكويت. كان سعد الفرج مع ابن عم له اسمه سعد الفرج أيضاً. كانا في سيارة، وشاهدا سيارة القنصل البريطاني. وبانفعال مُراهِقينِ محتقنين بمزاج عربي عامٍّ ساخط على تداعيات العدوان الثلاثيّ على مصر، حاولا الاصطدام به، فانحرفت سيارة القنصل، لترتطم بالرصيف. حضرت الشرطة، أُخِذ المُراهِقان، حُقِّق معهما، أُدِبا، ثم أُطلِق سراحهما..! ليست الذكريات وحدها هي التي تُروى حين يتحدّث سعد الفرج أمام جمهور أو قُبالة شاشة تلفاز. عفوية الإنسان الخليجي هي التي تضطلع بمهمة قراءة التاريخ، وتسجيل المواقف، وسرد الألمِ على ما هو عليه من تعقيداتٍ متشابكة. سعد الفرج، الممثّل النجم الضارب في وجدان الخليجيين منذ ستينيات القرن الماضي يتحدّث من قلبه وعقله بلا موارَبة ولا تحفُّظ على نحو يبدو وكأنه من النوع الذي لا يُجيد إمساك العصا، أية عصا، من النصف. كما أنه لا يُجيد الإمساك بها من أحد طرفيها ليضرب أحداً. لكنه بالتأكيد يتفَّهم بيئته، وواقعه، وحقيقة ما يجري حوله، ويقول ما يُريد قوله ببساطة إنسان ممتزج بملوحة ماء الخليج.. وبشجاعة..! وقصته مع ابن عمّه كانت تلخيصاً لإجابة معقّدة عن سؤال إشكاليّ استنكر تغيُّر موقف الفنان الكبير من القومية والعروبة وتلك العواطف التي كانت تحكم جزءاً عريضاً من المجتمع العربي بشكل عام، والمجتمع الخليجي بشكل خاص. سعد الفرج لم يدّخر كلمة. أشار بإصبع قلبه إلى «الغزو».. إلى صور صدام حسين التي كانت في كلّ بيتٍ كويتي من قبل أغسطس 1990. وعلى سجيّة أبٍ تحدّث عن ابنيه. أحدهما اعتقلته القوات العراقية في الكويت 52 يوماً، والآخر عاد إليه مشلولاً بفعل التعذيب الوحشي. هكذا أجاب سعد الفرج من قلبه، وتجربته، ومعايشته. لم يتوسّل شعاراً، ولم يطنطن بكلام كبيرٍ.. تحدّث المواطن الكويتي فيه.. تحدّث الأب ليترك الجمهور يحكم. سعد الفرج موجودٌ هذه الأيام في المملكة لأداء دوره في مسرحية «الطنبور» التي تُعرَض في مهرجان «الدوخلة». وفي الساعة الأخيرة من نهار أمس، حين استضافه منتدى «الفنار» في مدينة سيهات. أدار الحوار المسرحيّ السعودي عبدالعزيز السماعيل بفهم ومعرفة وثقافة. كان سعد الفرج على طاولة الحوار، وكان الجمهور حاضراً مع الشخصية التي أحبّها الخليجيون منذ «درب الزلق».. جمهور كرّر مشاهدة «كافيْ عذابْ يا صالْحَهْ»، و «الجد أبا الحصاني»، و «أبو ادْعَيْ»، وغيرها من الأدوار التي تعمّقت في الذاكرة.. في هذه الضيافة قال النجم الشهير إن «المسرح الذي ليس فيه امرأة ليس مسرحاً»، وكرّرها حين سألته الصحافية آسيا الفضل عن رأيه في مسرح المنطقة الشرقية. ومن الطبيعي أن يكون المسرح الكويتي هو الوجبة الأهم في الحوار المفتوح. والفرج لا يُعبّر عن رأيه فحسب، بل يسرد المعلومات من عمق ذاكرة حديدية مُدهشة. ففي عام 1958 وقفت أول امرأة على خشبة المسرح في الكويت، هي أمينة الطحاوي، بطلةً مع ناصر الفرج، الفنّان والنّقابي العربي الذي شغل منصب رئيس اتحاد العمال العرب. المسرح الكويتي حسب رأي الفرج كان رسالةً، ومنذ تعلُّقه به أواسط الخمسينيات أحبّه حتى من قبل أن يقف على خشبته. عمل في بيع التذاكر، في تلبيس الممثلين، في مساعدة الفنيين.. ثم وقف عليه ممثلاً، وأدّى الدور تلو الدور. وأصرّ على صقل موهبته بالتعليم، وتفرّغ للدراسة حتى حصل على البكالوريوس في الإخراج والإنتاج التليفزيوني من الولاياتالمتحدة عام 1974. وبعد عودته إلى الكويت؛ كان وتوأمه الفني عبدالحسين عبدالرضا ثنائيّاً رياديّاً سرق إعجاب الجمهور الخليجي مسرحاً ودراما. هذا ما يعرفه الناس. وما يعرفه الفرج ويقوله أكثر بكثير، فالمسرح الكويتيّ، تحديداً، كان سياسياً في الثمانينيات، ولذلك حُورب كثيراً، وضُيِّق عليه الخناق، إلا أن الجمهور كان مقبلاً عليه. بعد الغزو «انقضّت عليه الأحزاب المتطرفة»، على حدّ قوله، لكنّ الفرج مؤمن بأن «المسرح يجب أن يقوم بدوره، في خدمة البلد والأرض والعادات والتقاليد واللهجة».. أضاف «أداء المسرح خطير». لكنه مُني بتراجع كبير بعد الغزو، مثله مثل تراجع الرياضة الكويتية والسياسة. قال الفرج ذلك وهو يُجيب عن سؤال لعلي الحرز. ليس المسرح وحده هو الذي يجب أن يقوم بدوره. الدراما بشكل عام.. هنا تحدّث الفرج عن فيلمه «تورا بورا»، الفيلم الكويتي الذي تحول إلى مسلسل أيضاً. المعضلة التربوية الخطيرة في واقعنا المعاصر، بعد تصاعد موجة الإرهاب. الفرج قدّم ملخّصاً لشاب مراهق يُغسَل دماغه ليسافر إلى أفغانستان وينضمّ إلى الجماعات المتطرفة. العمل الفني يُطلق جرس إنذارٍ مدوٍّ: أيها الآباء تحاوروا مع أبنائكم.. اقتربوا منهم. كان حديثه مركّزاً على الأعمال الفنية، لكن الفرج يربطها بالواقع، يخرج من «لوكيشن» الحديث كاشفاً عن ألمه لما يجري من حولنا.. سمّى الأشياء بأسمائها بلا تحفظ.. مسلم، مسيحي، شيعي، سني.. الخليط الذي انفجر في واقعنا ليفرّق العرب والمسلمين. ومسرحية «الطمبور» التي يقدّمها الفرج على مسرح الدوخلة على صلة بهذه الرؤية.. فهي تعالج التطرف والتعصب بأسلوب كوميدي، وتقوم قصتها على دور أبٍ يضطر إلى الاستعانة بأطراف خارجية لحل أزماته العائلية فيحدث كثير من المفارقات. وقد تحدّث الفرج عنها من زاوية رؤيته إنساناً وأباً.. وقال للجمهور، أمس، إنه يقف على خشبة المسرح ليتعلّم من الشباب.. أكثر من 50 عاماً من التمثيل ليست كافية له ليتعلم.. يُريد أن يتعلم من الشباب أيضاً.. إنهم الجيل الجديد. إنهم ذائقة مختلفة، تفكير مختلف، رؤية مختلفة. هكذا بلا مواربة ولا مكابرة قالها نجم الخليج الشهير ببساطة. تراجع الدراما الكويتية وغيرها له تفسيرات كثيرة ربما.. لكن الفرج له رأيه، فهو يقول «لكل زمان دولة ورجال».. وزمن «درب الزلق» و «الأقدار» غير زمننا اليوم. في السابق كان التليفزيون يقبل الأعمال لأنها أعمال حقيقية.. العمل المميز هو الذي يجد طريقه إلى الناس. أما الآن؛ فإن أغلب الأعمال التي تُقدّم وتُعرض هي «شغل تحت الطاولة».. «العمل المميز ما لَهْ قيمة». والصدارة لأعمال «تحت الطاولة» التي تخرب الذائقة. كانت الساعة الأخيرة من نهار أمس اختزالاً مكثّفاً لرؤية فنّان، وتاريخ إنسانٍ خليجيٍّ عاصر التقلّبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على امتداد يفوق ال 60 عاماً، وعبّر عن مراحلها على خشبة المسرح، وفي شاشات التلفاز منذ «الأسود والأبيض» وصولاً إلى عصر الفضائيات العابرة للقارّات والذائقات والأخلاط المتخالطة في تنوّعها المتصادم. قال الفرج كلماته ليُعبّر عن أجيال متعاقبة بلغته البسيطة.. بكلمة «عمّي» التي يستخدمها الكويتيون حتى اليوم وراثةً من زمن الغوص واللؤلؤ.. كان الفرج غوّاصاً على طبيعته..!