لم أرَ أحداً مختلفاً في ذاته، وسجيته، وكينونته، وطبيعة خلقته، مؤتلفاً مع ضده، ائتلاف الغصن مع بتلات زهرته، وانسجام الصبح مع تغاريد الطير في رقته، كما رأيت الرجل والمرأة المؤتلفين جُملةً، المختلفين كليةً. لقد رأيت الرجل ظاهرهُ، فرأيت صلابته، وقوته، وشدته، وهيبته، حتى كدت أحسبه كتلة صامتة، يتلبسها الغموض، ويحيطها الوجوم، فيصعب أمامي فك أسراره، والكشف عن سريرته ووجدانه، إلى أن رنوتُ إلى جزء من باطنه، فوجدته ليناً، رخوَ الجانب، سخيَّ الحنان، جوَّاداً في المشاعر، ولكن ما يصيبه من شح في العطاء، أو ضن في الوفاء، سببه أن نفسه كالأرض الهامدة، إذا ما روتها قطرات حنان صائبة، ونفحات محبة صادقة، وزخات احترام وتقدير وتوقير، اهتزت وربت ومن كل بساتين المودة أينعت. ولقد سمعت الرجل، فسمعتُ صمته، وما يطويه في صدره، لأنه، غالباً، يفكر قبل أن يتحدث، ويعلم متى، وبمَ ينطق، فإذا حدّث، سمعت حكمته، ورزانته، وأخذت منه الفائدة تامة بلا إيجازٍ أو إطناب. وعلى النقيض، رأيت المرأة ظاهرها، فرأيت رقتها، أنوثتها، طفولتها، وحِدّتها، وكانت عيناها وملامح وجهها دوماً ما تفضح سرها، وتكشف دخيلتها، لأنها على جَبْلتِها خُلقت، شفافة القلب، لا يكاد شيءٌ يختبئ فيه ليلةً واحدةً، وإلا ماتت كمداً، أو جُنّت فرحاً، فلم يعجزني فهم النساء بواطنها، وكنت أسمع المرأة كثيراً، فسمعت همومها، وأفراحها، وشغلها، وفراغها، وأحلامها، وماضيها وحاضرها ومستقبلها، كلٌّ في يوم واحد بل في مكالمة واحدة، فأشعر معها أنني أتدحرج على خيوط بيت العنكبوت المتشابكة بعضها ببعض. وليس، أيها القارئ الكريم، ما وجدته في الرجال إطراءً يُعجبون به، ولا ميزةً يفتخرون بها، وليس ما وصفته في النساء مذمةً تلحقهن، أو شيئاً يسوءهن، بل هي طبيعة مختلفة، خلقهم الله تعالى عليها، فما كان لهم أن يكونوا غيرها. وإن ما أثار فكري، وحرّك مشاعري، حينما تأملت، كيف خُلقا هكذا مختلِفَيْن جداً؟ بينهما مثل ما بين المشرق والمغرب، فإن تحابا، ائتلفا جداً، وأينعت البساتين في قلب كل منهما، ونما الورد العطِر على ألسنتِهما، فيصبحان نفساً واحدة، وروحاً متجانسة. وكيف لي العجب، إذ أجد الجواب في قوله عز وجل، يخبرنا بتلك الهبة الإلهية الجليلة: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». فلو تفكرت أيها الرجل بعمق في عقلية المرأة، ومشاعرها، وأحلامها، وكينونتها، لكُشفَت لك أسرارها، وهانت عليك تقلباتها ومزاجيتها، وفهمتها بيسرٍ أكثر مما تفهم هي نفسها، وذُلِّلت أمامك المشكلات القائمة بينك وبينها سواء كانت أماً، أو أختاً، أو زوجةً، أو ابنة. وإن تفكَّرتِ بعمقٍ، ولطفٍ أيتها المرأة في عقل الرجل، وتفكيره، وما تنطوي عليه نفسه، وما يحبه ويبغضه في أصل طبيعته، وما يسرُه أن يراكِ عليه، فستمتلكين مفتاحه، وستدخلين عالَمَه، من أوسع أبوابِه. فسلامٌ على مَنْ يأتلفان جداً، رغم اختلافهما جداً.