لم يكن التناقض يوماً صفةً من صفات الجمال، ولا ميزةً يمتاز بها أي شيء على الإطلاق، ولا سجيةً يُحمد عليها الإنسان، سواء كان ذلك التناقض في أقواله، أو أفعاله، أو تفكيره، أو حتى مظهره الخارجي. التناقض يشوه الصورة، ويجعلها مشتتةً، ويسلبها التناسق والجمال، ويمزق القول، ويجعله تافهاً، ويرقع الفكر، ويوهم بأنه انفصام عقيم، وأسوأ تلك الحالات، حينما يرتبط الفعل بقولٍ، وما أكثر مظاهر التناقض في مجتمعنا العربي، وما أوضحها للعيان، وأغلب ذاك التناقض تناقض الأقوال والأفعال، للصغير والكبير وللرجل والمرأة على حدٍ سواء إلا من رحم الله. فتجد أحدهم يحدثك في مجلسٍ حواري، أو جملةِ أصدقاء، عن السعادة الزوجية، وحقوق الزوج على زوجته، وحقوقها عليه، بل وينصحك كيف تتعامل مع طفلك، وكيف تصاحب مراهقك، وكيف تشجع شابّك، فتشعر أنه أسعد الناس على وجه الأرض، وأجمل البيوت على الإطلاق، وربما تجمعك الصدفة بذاتِ الشخص يوماً، أو تسمع خبره، فتجد أن لديه مشكلات أسرية، وتذبذبٍ في شخصيات أطفاله، وعنادٍ لمراهقيه، وضياعٍ لكباره، وربما تصل الأخبار بأنه قد انفصل عن شريكه أو شريكته تماماً، فتتعجب في نفسك، وتفتح عينيك ذهولاً وتقول كيف كان حديث الأمسِ مناقضاً لخبر اليوم! أو أنك تسمع من رجلٍ أو صديقٍ – لديه فتياتٍ مقبلاتٍ على الزواج – رأيه في الزواج، وكيفية انتقاء الشاب، ومقوماته التي يُقبل لأجلها، فتجده يخبرك بأن {من جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه}، وأن الناس أصبحوا جشعين طماعين تسببوا في عنوسة الفتيات، وانحراف الفتيان، وأنهم لابد أن يختاروا الدين والخلق أولاً، ويقدموهما على ما سواهما، وأن {أقلهن مهراً، أكثرهن بركة}، فتظل تسمع منه الحِكم تنساب انسياباً، وتنحدر الدرر من بين شفتيه انحداراً، فتُكبره في عينيك، وتجلّه في نفسك، وربما تدعو {أكثر الله من أمثالك}، ويا حبذا إن صادفَت الصدفة وكنت ذاك الشاب، الباحث عن العفة، المتدين صاحب الخُلق الحميد، ولكنك كحال عامة الشباب، دخلك يكاد يكفيك، ولا يد لك في عشراتٍ من الآلاف، فتذهب إلى ذلك البيت القنوع، العظيم، وتدخل من بابه، وتطلب يد ابنتهم للزواج، فما يلبثوا أن يبتسموا لك ويرحبوا بك ثم ما إن تبدأ في طرح ظروفك، وإخبارهم بحالك، وأنك لديك عمل بدخلٍ محدود، وشقة مؤجرة في إحدى العمارات، أو دورٍ في إحدى البيوت، وأنك تبحث عن الأدب والأخلاق وتريد العفاف، حتى يقطب الجبين، ويتعكر الصفو، وتجد كلماتٍ كهذه: (يابني أنت تعلم، لا أحد يضمن المستقبل، وكل أب وأم يخافان على ابنتهما الغالية، ونريد أن نضمن مستقبلها، وألا نحزنها، وقد حضرت حفل زفاف صديقتها من قريب، وأن لديها أحلاماً، وطموحاتٍ، وآمالاً، وتطلعاتٍ، وأن ابنتنا ما زالت صغيرة، يتهافت عليها الخطّاب، ويأتونها من كل حدبٍ وصوب، وهي مع الأسف لا تستطيع أن تجمع بين الدراسة والزواج – إن كانت طالبة -، أو لديها طموح في الدراسات العليا، – إن كانت متفرغة -، ويبدأ الأب بسرد قصص فشل لا نهاية لها، وهذا الشاب يجلس واجماً مذهولاً مذعوراً تدور رأسه كطاحونة. أليس ذاك هو الشخص ذاته الذي قابلته بالأمس؟! ياللعجب. أو تجد أحدهم يبحث عن الزوجة ذات الخلق والدين، ويقول {فاظفر بذات الدين تربت يداك}، وما إن يدله الناس على فلانة بنت فلان المعروفين بالصلاح والأخلاق، وربما تلك الفتاة ليست على قدرٍ عالٍ من جمال الشكل، أو الجسم، فتدخل للرؤية الشرعية، فما إن يراها، ويجدها سمراء أو بيضاء، أو نحيفة أو متينة أو أياً كان عكس متطلباته، فتجده يخبرهم أنه سوف يستخير وبعدها لا تجد له أثراً، ولا تسمع عنه خبراً. أضف إلى ذلك التناقض الديني، والسياسي، والأخلاقي، وكثير من المظاهر التي لا تسعها الصفحات، ولا يكفيها مداد الأقلام. لم أطرح مثل تلك الأمثال لأنتقص من حق الفتاة، أو أشوه صورة الشاب، ولكنني طرحت أشياءً لامست حياتنا كثيراً، ولم نكن عايشناها فقد سمعنا بها، ورأيناها، بل إنني أقدر كلاً من حق الفتاة والشاب، ولكنني أريد منهم، إن لم يفعلوا الصحيح وإن لم يقتدوا بالسنة في كل أمورهم، أن يثبتوا -على الأقل – على أقوالهم، ويعلموا أن الله سبحانه وتعالى يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونْ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}. وأخيراً، أنصحني وأنصحك أيها القارئ، بأن تكون ثابتاً في أقوالك ومبادئك، مطابقاً لأفعالك وتصرفاتك، حتى تصدق مع نفسك قبل الناس، ولا تحاول أبداً أن تُظهر ما لا تُبطن، أو تتحدث بما لا تعتقد وتؤمن، حتى تظهر أمام الناس فقط بصورةٍ بهيّة تعجبهم وترضيهم عنك، ولكن كن أنت مع نفسك، ومع أهلك في بيتك، ومع الناس خارج بيتك، نفس الإنسان، كن أنت ولا تتلون كالحرباء، أو تتغير كالفصول الأربعة، أو كحالات الطقس، فأنت لا تعلم نتيجة تناقضك أي نفسٍ تؤذي، وأي روحٍ تحزن، وأي فكر تحرّف، وأي فؤادٍ تفجع.