اليونان اليوم ليست كما كانت قبل الميلاد وبعده بقليل، حين كانت جزراً ومناطق متناثرة يستطيع الناس فيها صوغ علاقاتهم مع بعضهم بعضاً واختيار نظامهم السياسي والاقتصادي الذي يريدون. فبسبب العولمة المتوحشة والليبرالية الجديدة وتعقُّد أدوات اقتصاد السوق، زاحم اليونانيون أمماً أخرى خصوصاً دول الاتحاد الأوروبي الذي تعتبر اليونان جزءاً من منظومته، وكان عليها أن تقدم كشف حساب عن وضعها الاقتصادي وملاءتها المالية التي تم تزويرها وإخفاء حقائق عن قادة الاتحاد، وذلك لكي تتمكن من دخول منطقة اليورو. فعلت ذلك نخبها السياسية الفاسدة التي كانت سلوكياتها سبباً في إفلاس الاقتصاد اليوناني، كما تسببت الأوضاع المالية بعد 2008 في انزياح أجزاء كبيرة من الطبقة الوسطى إلى الدرك الأسفل التي تحتاج لمساعدات مستمرة لكي تصمد في وجه طوفان الإفقار. ويبدو أن هذه الفئات وغيرها من الفئات محدودة الدخل بحاجة لاستحضار الشعار الوطني اليوناني الشهير «الحرية أو الموت»، ولكن ليس على طريقة إسبرطة العسكرية، بل على طريقة أثينا الديمقراطية المدنية بعقلية الحاضر من خلال تحويل الشعار الوطني إلى برامج وخطط عمل تعيد للمواطن اليوناني توازنه المعيشي على الأقل. لقد قام أليكسيس تسيبراس الذي لا يتجاوز عمره الواحد والأربعين عاماً بمعجزة انتخابية سبق وأن فشل فيها في 2012 لكنه عاد إليها بقوة في يناير 2015 ليشكل أول حكومة يسارية «متطرفة»، مستثمراً فشل النخبة السياسية الحاكمة وحماس الشباب والشعب اليوناني التواق إلى التغيير ورفض عبودية الدين العام الذي يستنزف ثرواته الوطنية ويضع اليونانيين تحت خط الفقر. ربما هذا ما قاد رئيس الوزراء الشاب إلى رفض ارتداء ربطة العنق إلا بعد أن يتوصل إلى اتفاق مشرّف بين بلاده والدائنين المتربصين به، ولهذا وضع هدية نظيره الإيطالي على الرف، وكانت عبارة عن ربطة عنق من الحرير. وُلد تسيبراس في أثينا بعد أيام من هزيمة الحكم العسكري في 1974، ولم يكن مهتماً بالسياسة حتى مرحلة دراسته الثانوية عندما قاد زملاءه إلى احتجاجات ضد سياسة اليمين التعليمية. وقد تشرّب الأفكار اليسارية المثيرة للجدل حين طالبت الحركة الطلابية بحرية حضور أو عدم حضور الحصص المدرسية، وواصل نشاطه السياسي في حياته الجامعية عندما كان يدرس الهندسة. ولأنه متوثب ويسيطر الحماس على تفكيره، لم يتردد عن السفر في 2001 إلى مدينة جنوه بإيطاليا ليشارك في الاحتجاجات التي نظمها رافضو توجهات الدول الكبرى الثماني. وثمة صفات اشترك فيها رئيس الوزراء اليوناني تسيبراس مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في أنهما كانا عضوين في الشبيبة الشيوعية بكل من ألمانياالشرقية واليونان، لكن ميركل القادمة من الشرق الألماني الذي كان جزءاً من منظومة الدول الاشتراكية، انقلبت على مفاهيمها رأساً على عقب وتحولت إلى اليمين، بينما ظل تسيبراس وفياً لمبادئ اليسار التي أوصلته إلى رئاسة الحكومة اليونانية. فهل تستطيع هذه السيرة تنفيذ بعض من وعود الشاب الموصوف أوروبياً بغريب الأطوار، خصوصاً في إعادة الحد الأدنى للأجور وإيجاد 300 ألف وظيفة وإعادة المسرحيين إلى وظائفهم؟ لقد فقد اليونانيون 25% من قدرتهم الشرائية منذ 2011 وأصيبوا في كبريائهم الوطني بسبب الإجراءات التقشفية التي سارت عليها الحكومات السابقة وتفجرت نتائجها في وجه الشاب تسيبراس الذي يحاول القادة الأوروبيون ترويضه من خلال جلسات وتصريحات، منها ما قاله المفوض الأوروبي بيير موسكوفيتش بأن تسيبراس أكثر اعتدالاً من جان لوك ميلتشون رئيس حزب جبهة اليسار الفرنسي الذي يطالب باليورو الاجتماعي. فقد تمكن تسيبراس من إسكات الأصوات المعارضة في حزبه، كما حصل تفويض للحوار والتفاوض مع الدائنين، وبهذا أوجد الأمل في استعادة بعض من الكبرياء لشعبه التواق للانعتاق من الدَّين العام المقلق، بما يحفظ ماء وجهه عبر الإبقاء على شيء من تعهداته أمام ناخبيه من جهة، وحفظ ماء وجه قادة الاتحاد الذين انبرى بعضهم لتدريس تسيبراس عادات وتقاليد أوروبا، لكنه لم يتقن الدرس الألماني على ما يبدو فأطلق على مولوده الجديد اسم أورفيوس أرنستو، تيمناً بالثائر تشي جيفارا. هل تشبه بعض دولنا حالة اليونان بعد أن تهاوت أسعار النفط وانكشفت الموازنات العامة التي بدأت تعاني من عجوزات يبدو أنها ستستمر عدة سنوات في ظل الاعتماد شبه الكلي على إيرادات النفط؟ بعض دول المنطقة وضعت يدها على الأموال المخصصة لدعم السلع الغذائية، وقررت رفع هذا الدعم أو جزء منه، ومدت يدها إلى أموال التقاعد، فقد رشحت أنباء عن صدور قرارات بعدم صرف مكافأة نهاية الخدمة للموظف المتقاعد دفعة واحدة إنما توزيعها على رواتبه بالأقساط، ما يفقدها قيمتها الكمية لو تسلمها المتقاعد دفعة واحدة، كأن يستفيد منها في تأسيس مشروع صغير أو تسديد قرض شخصي تثقل فوائده كاهله، أو القيام بترميمات في منزله المتهالك. يأتي ذلك في ظل استمرار العجوزات وتضاعف الدين العام الذي يذهب جُله إلى تسديد الأجور والرواتب، ما يضع اقتصاديات الدول التي تسير في نهج الاقتراض المفرط المترافق مع الفساد المالي والإداري والتهميش، على طريق اليونان التي عانت من النخب السياسية الفاسدة، ولكن مع وجود فارق كبير هو وجود سلطات تشريعية وشعبية في أثينا بينما يفتقد الآخرون كليهما.