رمضان شهر الصوم والقربات، والبطولات والانتصارات والتحولات. وقعت خلاله المعارك الفاصلة التي حولت مسار التاريخ، كبدر وفتح مكة والقادسية وحطين. وفي العصر الحديث معركة العاشر من رمضان التي ردت إلى العرب شيئاً من كرامتهم أمام العدو الصهيوني. قدر لي أن أصوم رمضان في عدد من البلدان يوم كنت مولعاً بالترحال واقتضت ظروف الدراسة والعمل وما بينهما أن أكون خارج الوطن. لم أر تغيراً في حياة الصائمين سواء في دول العالم الإسلامي أو غيرها، لا من حيث مواعيد النوم والاستيقاظ، أو الدوام والعمل، أو السلوك والتعامل، ولم ألحظ أي نوع من النهم الاستهلاكي والإسراف. تذكرت ذلك كُلَه حين وصلتني صورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تبين احتشاد الناس في أحد مراكز التسوق الغذائي وقد كتب عليها (ذات المقاضي) على غرار (ذات الصواري) أولى معارك المسلمين البحرية في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وشتان بين هذه وتلك. (ذات المقاضي) لفتت نظري إلى أنماط حياتنا وسلوكياتنا خلال (الموسم الرمضاني). فمن المفترض أن يكون رمضان أحد مواسم التجارة الرابحة مع المولى جل وعلا، لكن بعضهم يأبى إلا أن يجعله غير ذلك. أصبح رمضان موسماً استهلاكياً تجارياً بامتياز، تُسوق فيه البضائع منتهية الصلاحية، والأغذية الفاسدة، والإعلانات التافهة، والمسلسلات الخادشة ويمارس فيه -مع الأسف الشديد- الغش والخداع والكذب. تخرج فيه جحافل المتسولين الكاذبين، والسائلين النصابين. يترك بعض الأئمة مساجدهم بحجة الاعتكاف في حرم الله الآمن، ويعطل الموظفون مصالح المراجعين بحجة الصيام، ويتعذر المتعذرون بتلاوة القرآن الكريم تهربا من أداء المهام الموكلة إليهم تنقلب حياتنا رأساً على عقب، غافلين عن قول الحق تبارك وتعالى: (لعلكم تتقون). (ذات المقاضي) نكأت جراحاً واستدعت ذكريات، يوم كنا نخلد للنوم قرابة الساعة الحادية عشرة ثم نستيقظ للسحور ونرتاح قليلاً بعد الفجر، ننطلق بعدها إلى مدارسنا. الأسواق والدوائر الحكومية والأهلية تعمل بشكل اعتيادي، الكل يؤدي عمله بهمة ونشاط ونفس طيبة دون أثر للأخلاق (التجارية). مائدة إفطارنا لا تتجاوز ثلاثة أطباق (الشوربة، السنبوسة، والفول) وإن تيسر قليل من قمر الدين. البرامج الإذاعية هي السائدة أما برامج التلفاز فمحدودة ومحددة. بعد العشاء يحين موعد اللعب في الحارة -يوم كان الطائف مأنوسا وللحارات دورها وحياتها وموروثها- ألعابنا جزء من التراث المحلي مثل(الكبت، والليري، وسبع الحجر، والمقطار، والشرعت وغيرها) من يملك القروش يستطيع أن (يتمرجح أو يتمدره) فالمراجيح والمداريه واستئجار الدراجات هي المدن الترفيهية لذلك الزمان. (البليلة، الشرشو، والشربيت) أكثر ما نستطيع تناوله بين الفطور والسحور. لم تكن شراهة الاستهلاك لشراء ما يُحتاج وما لا يُحتاج تُرى، ولم نشهد تحول منازلنا إلى مستودعات لتخزين المواد الغذائية، ولم تحفل موائدنا بأصناف المطاعم والمشارب التي تنتهي إلى حاويات النفايات. إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل مشهد (ذات المقاضي) يتكرر عصر كل يوم أمام محلات الفول والسوبيا والحلويات والمخابز والمطاعم، فالازدحامات والطوابير الفوضوية وعكس السير والوقوف أمام أبواب المنازل وسد الطرقات ومضايقة الساكنين، ناهيك عن السباب والشتائم والمضاربات، فأين تتحقق التقوى مع كل هذا؟