في قريته بسراة عبيدة، وبعمره المديد إنْ شاء الله، لم يأخذ جدي سعد يوم إجازة واحدة في حياته، بل أتذكر أنَّه حتى في أيام العيد كان يعمل في حقله، أو يقوم بواجب ما، و فوق ذلك لم أره أو أسمعه أبداً يتذمر من العمل أو الواجب، وانتاجيته رغم واجباته الاجتماعية الكثيرة، كبيرة جداً ومثمرة، يوظفها للصالح العام، أي أنها إنتاجية قابلة للقياس وقابلة للتحول إلى رصيد واقعي وملموس. مثل جدي سعد، نجده في جيل بأكمله، كان العمل والإنتاج له الرصيد الأكبر في الحياة، فبلا عمل وإنتاج لا توجد حياة، لكن، ومع التحولات الاجتماعية المتغيرة، والمتزامنة بظهور النفط، ولتغيرات أكثر عمقاً، صاحبت ذلك التحول، تغيرت النظرة لثقافة العمل ذاتها، فبفضل الريع النفطي صارت الوظيفة «محدداً للعمل» بذاتها، وأصبحت أداة كسب لا إنتاج، وأداة غنيمة لا عمل حقيقي، فبكل المقاييس لا يمكن لأي إنسان أن يستمر في العمل المضني ومحدود المردودية، مقارنة بعمل أكثر راحة وأعلى دخلاً بحيث لا تتوفر المقارنة ابتداءً. تشير الإحصاءات، سواء في دراسات مستقلة، أو بحسب ديوان المراقبة العامة، إلى أنَّ معدل إنتاجية الموظف السعودي في القطاع الحكومي، يبلغ على الأكثر ثلاث ساعات يومياً، وتشير إلى أنَّ 70% من موظفي القطاع الحكومي «متسيبون» في العمل (جريدة الرياض عدد 15467). السؤال هنا ليس لماذا يحدث هذا؟ بل السؤال الحقيقي: عندما تكون الإنتاجية منخفضة بهذا الشكل فماذا يعني ذلك؟ الجواب إما أنَّ الأعمال المناطة لا يتم إنجازها أو يتم إنجازها بشكل رديء وغير محترف أو أنَّ هناك بالفعل بطالة مقنعة فلا حاجة للبقاء في العمل، حيث لا يوجد عمل بالأصل! والحقيقية المرة أنَّ كلا الأمرين صحيح، فمع اليقين أنَّ معظم العائد النفظي للبلاد يذهب إلى بند الرواتب إلا أنَّ العائد على هذا الإنفاق يعتبر في أقل أحواله غير مقنع، ولهذا يشعر المواطن بضعف في كثير من الخدمات الحكومية، وكذلك في المشاريع التنموية، وعدم القدرة على الإنجاز، حتى صارت مسلمة عند الكثير أنَّ المشاريع التنموية أكثرها متعطل أو منفذ بشكل رديء! لا يمكنك إنجاز عمل يستحق أكثر من ست ساعات يومياً في غضون ثلاث ساعات، كما لا يمكنك خلق سلسلة بيروقراطية كبيرة لا داعي لها، إلا لأجل التوظيف، ولذلك نذهب دوماً للحل الأمثل في المسألة (الحل المنظور) وهو أن يتم خلق قاعدة إنتاجية متنوعة للإقتصاد، لتتم الاستفادة من رأس المال البشري السعودي، حتى لا يتم إحراقه بالبطالة الحقيقية أو المقنعة، فعندما يكون 90% من مدخول البلد عبارة عن تصدير للنفط وال 10 % الباقية عبارة عن صناعات تعتمد على الطاقة الرخيصة، لتستطيع المنافسة العالمية، فنحن أمام إشكالية كبيرة، ومهما قمنا بالابتعاث وتدريب الكوادر البشرية وإنشاء الجامعات والمعاهد، ومهما قمنا بنشر التعليم (بغض النظر عن مدى فعاليته) ستظل القاعدة الاقتصادية الإنتاجية غير قادرة على استثمار الرأسمال البشري. ولذلك لا أرى سوى أحد حلين، وكلاهما مر، أحدهما «خلق تغيير ثقافي اجتماعي» يجعل من ثقافة العمل والإنتاج المعيار الوحيد للنجاح الإنساني في المجتمع، أي كما ورد في الأثر «قيمة المرء ما يحسنه» وهذا يتطلب تغييراً صعباً في مجتمع أغلبه تربى على قيم ليس لها علاقة بالعمل المنتج بل أشبه ما تكون بعصبيات ماضوية مرتبطة بقيم الريع والغنيمة أكثر من ارتباطها بالعمل والإنتاج، وهذا يتطلب رؤية وفلسفة حضارية قادرة على خلق هذا التحول، وقد قامت دول عديدة بمثل هذه التحولات مثل اليابان وكوريا الجنوبية، بل وحتى في محيطنا الإسلامي كماليزيا وتركيا، بل وحتى دبي كنموذج عربي. والعامل الآخر أن تكون هناك إصلاحات تمهد لخلق تلك القاعدة الإنتاجية، ومن أهم تلك الإصلاحات، خلق ثقافة قانونية واضحة وشفافة، ومكافحة للفساد، وتهيئة البيئة القادرة على تحويل الأفكار الجريئة إلى طموحات اقتصادية منتجة.