قبل أسبوع حضرت لقاءً على «اليوتيوب» بعنوان «قمة السلام 2009، تعليم القلب والعقل»، شارك فيه مجموعة من القادة الروحانيين والمفكرين والحاصلين على جائزة نوبل. عُقد اللقاء في فانكوفر بكندا، وكان من أبرز المتحدثين الدالاي لاما، الزعيم الروحي للبوذيين التبتيين في العالم، وهو راهب قضى حياته في البحث عن الحكمة والتأمل والعزلة، وإيكارت تولي، المفكر الألماني الذي يعيش حالياً في كندا. إيكارت تولي مؤلف كتابين من أعظم الكتب هما «قوة الآن»، و»أرض جديدة». كتابان بعد أن تقرأهما لا تعود كما كنت أبداً، تتغير من الداخل تغيُّراً عميقاً. قرأت الكتابين بلغتهما الأًصلية «الإنجليزيه»، ولا أعلم إن كانت الترجمة العربية لهما جيدة، أو أنها مختصرة وملعوب فيها لأسباب معلومة عانى «تولي» في حياته معاناة كبيرة «نفسية» حتى إنه فكر في الانتحار أكثر من مرة. كان طفلاً بالغ الذكاء ومع ذلك لم يستطع الاستمرار في المدرسة في ألمانيا، ولكنه لاحقاً أكمل دراسته حتى بدأ برنامج دكتوراة في بريطانيا بجامعة لندن. كان وقتها في منتهى التعاسة، تمر عليه أوقات قاسية يتألم فيها نفسياً دون أن يعرف السبب. من قصصه المؤثرة هي رحلته في «المترو» متجهاً إلى مكتبة الجامعة وسط لندن. يقول ركبت «المترو»، وكان مزدحماً لدرجة أن كثيراً من الركاب كانوا وقوفاً لم تسعهم المقاعد، وإذ بي أرى سيدة جالسة والمقعد على يمينها فارغ، وكذلك المقعد على يسارها! تعجبت لماذا لا يريد أحدٌ الجلوس إلى جانبها، ويفضلون الوقوف، ما هي إلا لحظات حتى عرفت السبب، السيدة تكلم نفسها بصوت عالٍ، يسمعه الجميع، تلوم وتأنِّب وتعلِّق، ما أوحى بأنها مختلَّة، فقلق الجميع من الجلوس إلى جانبها. يقول حين توقف «المترو» في المحطة القريبة من مكتبتي، نزلت وكذلك نزلت السيدة، مشيت، ومشت في طريق المكتبة، دخلت المكتبة، ودخلت هي أيضاً المكتبة! صعدتْ فوق، وأنا توجهت إلى دورات المياه، وأنا مستغربٌ لماذا دخلت المكتبة، هل يعقل أنها أستاذة جامعية؟! لا يمكن فهي مختلة، ربما تكون حالة يُجري عليها أحد طلاب الدكتوراة تجاربه! يقول وأنا في دورات المياه أقف أمام المرآة، وأفكر فيها، تكلمت بصوت مسموع وقلت «لا أريد أن أصبح كهذه عندما أكبر»، عندها التفت، ووجدت شخصاً سمعني أكلم نفسي، وخرج من دورات المياه معتقداً بأنني مختلٌّ! ذُهلت، وقلت لنفسي «أنا لن أصبح مثلها ولكن أنا مثلها الآن، الفرق الوحيد بيني وبينها أنها تفكر باستمرار بصوت مسموع، وأنا أفكر باستمرار بصوت غير مسموع، وهو فرق بسيط جداً ولكننا، أنا وهي، مختلان». استخدم «إيكارت» هذه القصة كمقدمة لحديثه عن مرض «التفكير». يقول إننا نفكر باستمرار، وهذا مرض يجب أن نتخلص منه، وألَّا نفكر إلا حينما نحتاج إلى التفكير لاتخاذ قرار، أو للخروج بفكرة، أو تحليل معلومة. كثيرٌ من جلسات التأمل مهمتها تقليل حدة التفكير، وبالتالي تصفية الذهن. تستطيع أن تخفض حدة تفكيرك حتى لا يتبقى إلا فكرة واحدة فقط في رأسك. يقول الدكتور صلاح الراشد: أغلق عينيك وتخيَّل جحر فأر في الجدار وراقب الجحر مترقباً خروج الفأر، ركز فقط في الجحر عندها ستختفي كل الضوضاء من رأسك، ولن يتبقى إلا فكرة واحدة فقط تخص الترقب. هذا مجرد مثال تقريبي لكي تصدق أنك تستطيع أن تخفض حدة أفكارك، المتنورون يستطيعون الوصول إلى إيقاف التفكير تماماً. نعود إلى قمة السلام الخاصة بالتعليم، علَّق الدالاي لاما في انتقاد نظام التعليم الحالي بعبارة تدعو إلى التفكر، قال «ببعض التصرف مني»، التعليم الحالي يعلمنا كيف نُجيب على الأسئلة، بينما المفروض أن يعلمنا كيف نطرح الأسئلة، بينما الإجابات ليست مهمة.