«عندما يجلس إلى الكتابة، يغلق عليه باب الحجرة جيداً، حتى لا يكتشف أحد سرّه، وعلى طريقة اجتماع رجال الأعمال؛ فإنه يقوم بوضع ورقة وقلم – على الطاولة – أمام كل مقعد، حتى إذا ما انتهى من المهمة، يكون قادراً على نسخ مجموعة من الأشخاص كلهم جلال عامر، يجلسون حوله، يكتب كل منهم فقرة واحدة، مجموعهم حصيلة مقال يدفع به للنشر» هكذا تخيلت الأستاذ – رحمه الله – وهو يسطِّر مقالاته بعد أن حيرني أسلوبه الذي وضعه في مقدمة كتّاب جيله. و»فرقة جلال عامر للكتابة» تشبه أوركسترا، ينفخ فيها كل عازف أو يدق على آلة، فيكون الناتج قطعة موسيقية لا تستطيع أن تفصل فيما بينها من أصوات متناغمة، فإذا شعرت بدوشة من حولك قل لهم: جلال عامر كتب يقول فسوف يصمتون ليستمعوا إليك، وبعد أن تنته من تلاوة كلماته سيخرجون ضحكاتهم، فالشعب الذي يقف في طوابير البوتاجاز، يعرف أن مستودع جلال عامر للقفشات يعمل على مدار اليوم، وجلال عامر الذي كتب عن إسقاط النظام، مات من الفوضى بأزمة قلبية؛ دعونا الله أن يشفيه منها، ليخرج من ضائقة المرض، ويعود لممارسة السحر، فيفرق كلمات قليلة على قراء لا يمكن حصرهم، وبعد أن حاصره الموت لن نراه من جديد وهو الكاتب الضخم يضع نفسه في مساحة ضيقة ليفرّج عنا همومنا. ومقولات جلال عامر مثل العفاريت لا يمكن صرفها من الصيدلية ولكن من خلال تدبر معانيها. حكيم الصحافة درس الفلسفة في كلية الآداب، والقانون في كلية الحقوق، وعندما جاء إلى الدنيا كان جمال عبد الناصر يقوم بثورة يوليو 52 مع الضباط الأحرار الذين سرقت منهم إسرائيل سيناء، واستطاع الضابط جلال عامر مع زملائه أن يقوموا باستعادتها في حرب اكتوبر 73. وجلال عامر حين يكتب اسمه لا يسبقه برتبة عسكرية، واسمه رُتبة في الكتابة، يعظّم لها ملايين تحية لمن رفض أن يرفع يده بالتحية لإسرائيل، واستطاع أن يمنحهم الضحكات ويستبقي لنفسه ألم فتك بقلبه وجعله يرقد، ويجري له الطبيب عملية جراحية، توقفت يده بعدها، فلم يكتب له الله الشفاء. كتب جلال عامر المقال، وأبدع القصة، وقال الشعر، وصدر له كتاب «مصر على كف عفريت» وله تحت الطبع « استقالة رئيس عربي». وهو الكاتب العربي الذي استطاع أن يبدد الحزن بجرة قلم كان قادرا على أن يسخر من الكآبة. يقتطع منّا الفراق من يلملم في مقالة صغيرة أكبر حشد للفكاهة،. كان أول من نبحث عنه في الجريدة لنبدأ اليوم بابتسامة، وآخر عبارة لجلال عامر على تويتر: مشكلة المصريين الكبرى أنهم يعيشون فى مكان واحد لكنهم لا يعيشون فى زمان واحد. (لاحظ أنه لم يتطرق للموت) لكن الموت هو الذي طرح اسمه، وجمّعنا حول فقده، نقسِّم فيما بيننا الفجيعة برحيله، ونخصَّه بدعوات إلى الله أنْ يتغمده برحمته ويكتبه مع النبيين والصديقين والشهداء.