أطلَّ من بوابة السياسة، أخرج العمل الصحفي الاحترافي من أراضي النار، مزج الاحتراف بالميدان، وامتزج فكره بالقصة والتقرير والاستطلاع والحوار باكراً على طريقة صنَّاع الحدث، كان صحافياً برتبة قائد ومحارب يقتنص الانفرادات في وقت كانت الصحف إعلاماً متنقلاً والمراسل أشبه بالأكاديمية الجائلة، وعلى الرغم من بداياته بارَزَ كبار مراسلي الغرب وبرز بينهم اسماً عربياً مسلماً بمسار خاص، إنه جمال خاشقجي صاحب الصفات الاعتبارية المعبرة عن شخص واحد محترف في الهمم قبل المهمات، وفي الفكر قبل المنصب. في طيبة الطيِّبة ولد وترعرع خاشقجي سليل أسرة تعشق التجارة وتعبق بالدين، احتار كثيراً ما بين العلم والدين والتجارة، فأخذ من كل منها نصيباً وفق مقتضيات المرحلة آنذاك. وبدأ الفكر يدغدغ روح خاشقجي وانزرعت فيه قيم دينية متأصلة بحكم روحانية المكان، وما لبث أن كان مشدوداً قليلاً للالتباس في الرؤى والروية، ما دعاه للجهاد المؤقت تارة والسفر والبحث عن الفكر والمعلومات تارات أخرى. واعتاد خاشقجي في الثمانينيات على الحماس باكراً ولامس خطوط التماس مبكراً ما بين جهاد في الصباح واصطياد معلومات يدوِّنها في حقيبته مساءً خُفية وسط جبال أفغانستان وفي سهول الجزائر. في تلك الحقبة وتحديداً منذ عام 1987 وحتى مطلع التسعينيات كانت وسائل الإعلام المقروءة منظومة حقيقية لنقل المعلومة، وكان عمل المراسل الميداني في ظل الحروب جهاداً من نوع آخر، وكان حينها خاشقجي ينقل الصورة والحدث لصحيفتي عرب نيوز والشرق الأوسط، وعدد من الصحف العربية اليومية والأسبوعية، في منهج صحفي مبتكر أسس له خاشقجي مساراً مهنياً لمَنْ جاء بعده. وما لبث خاشقجي إلا أن غيّر وجهته مؤمناً بأن للجهاد أبواباً كثيرة واضعاً مسيرة فكره في مسار جديد ومحدداً نمط توجهه في جهاد الكلمة واصطياد المعلومة واقتناص الانفرادات الصحفية من بين الدبابات ووسط قصف الطائرات، فكان بطلاً صحافياً هزم التحدي بتغطيات في أفغانستانوالجزائر والكويت والسودان وعدد من الدول؛ الأمر الذي جعل تلك المواد الصحفية منذ عام 1991 وحتى الآن مناهج صحافية تتفاخر بها مراكز المعلومات في الصحف التي عمل فيها خاشقجي، وظلت أنموذجاً مهنياً احترافياً لآخرين جاءوا بعده، وهم مدعومون بكل وسائل العمل المريحة، ولكن مركزه الأول ظل باسمه، ومشهد عمله استمر متقدماً لم يلحق به غيره في تفاصيل واحتراف الصحافة الميدانية في الشأن السياسي والدولي وتغطيات الأحداث والحروب. وبعد ثماني سنوات قضاها خاشقجي في مرحلة جهاد حقيقي لإرسال الصوت وإيضاح الصورة وتصفية الحالة وبلورة الحدث، انتقل خاشقجي إلى منصب نائب رئيس التحرير في عرب نيوز، وظل فيها ما يقارب أربع سنوات وظَّف فيها ما صاغه في الميدان إلى العمل الإداري والقيادي باقتدار، ما جعله ينتقل للمنصب الأكثر جدلاً والأقل مدداً في مسيرته؛ حيث تولى رئاسة تحرير صحيفة "الوطن" لمدة 52 يوماً فقط جعلته يضع الأسس والخطط على ورقة بيضاء ومسودَّة كانت على طاولته في مكتبه بأبها، وخرج مُقالاً منها ولكنه تركها في جيبه ووسط أجنداته مؤمناً بما فيها من مرحلة ومستقبل رغم كل شيء. وبحكم مسيرته وثقله الإعلامي، استدعاه الأمير تركي الفيصل ليكون مستشاراً إعلامياً له إبان عمله سفيراً في لندن وواشنطن، وظل خاشقجي مؤيداً لنفسه والمستقبل معارضاً المختلفين معه والماضي، وظل ثلاث سنوات يؤلف الكتب ويحلل الأحداث على طريقته مُطلَّاً بكاريزمته الهادئة في إطارها الجدلية المحركة للسواكن في تفصيلاتها. وخرج خاشقجي عشرات المرات طيلة هذه الفترة مكسباً ومطمعاً للقنوات الاحترافية لتحليل المشهد السياسي، وظل فيها خاشقجي عاشقاً للكتابة الصحفية في عدة صحف، منعكفاً على إصدار كتبه ومؤلفاته متنقلاً بين الشاشات بتحليلاته الدقيقة وتفصيلاته للأحداث وآرائه، التي كانت تخرج من حنجرته بهدوء ثم تُحدث ضجة موازية للحدث. وفي عام 2007 عاد خاشقجي إلى أبها في حقبة ثانية لرئاسة التحرير بأجندات لا تختلف عن سابقتها غيَّر معها خاشقجي حبر قلمه إلى لونٍ أخف منه، محتفظاً بقلمه الأحمر متحفظاً حول قيود لامست الرأي والانتقاد لعديد من القضايا، ظل فيها حتى عام 2010 حيث استقال وعينه الأمير وليد بن طلال مديراً عاماً لقناة العرب، التي تتأهب للانطلاق والسباق في خلطة سرية وتفاصيل إعلامية مثيرة يعرف خلفياتها ورموزها وأبعادها خاشقجي والجميع يترقبها. يعترف خاشقجي ببداياته في الجهاد، ويغترف من تلك الفترة ما استلهمه من اعتدال لاحق في ميزان نفسه، مستشهداً بنماذج اعتدال ووجوه تغيرت من الفكر الجهادي إلى أفكار أخرى تحتاط بالفكر وتتسلح بالقناعة، خاشقجي خلطة إنسانية من الجدل والعدل يجادل في حق رؤيته ويعدل في الالتقاء مع الآخرين في نقاط التوءم الفكري. لا يكترث ولا يلتفت للانتقادات أو ما يسميه أحياناً بالمهاترات سواء في توجهاته الفكرية أو في طرحه الصحافي أو الإعلامي، مكتفياً بعمود صحفي أو تصريح فضائي أو تحليل سياسي أو رأي في مناسبة، مقرناً رده بجملة من القناعات الشخصية والاقتناعات المهنية، رافضاً التوقف في نقطة خلاف، بل إنه يحوِّل الخلاف إلى مرحلة استقصاء فكري جديد يتوالد من رحم الجدل، شخصية مركبة من الفكر والرؤى وبعد النظر يحتاط دوماً بجملة من المبادئ الذاتية مستلهماً أكثر من طريق للنقاش من بوابة اختلاف واحدة. خاشقجي خبير سياسي سبر ولا يزال أغوار قضايا سياسية، وألَّف عدة مؤلفات عن الشأن السياسي العربي والخليجي مهتماً بالجوانب الفكرية مثقلاً بهمِّ القضايا الساخنة. وسيظل خاشقجي وجهاً سياسياً ومجاهداً صحافياً من طراز خاص، وستظل مقالاته وآراؤه وجبات دسمة للنقاش تارة والاحتفال تارات أخرى، فهو خبير جمع مؤشرات متعددة من الفكر والرأي، مقترنة بخبرة فريدة في قامة شخص واحد.